ليس من السهل الكتابة عن شاعر ومؤلف موسيقي ومغني بمنزلة أحمد كايا. أقل ما يمكن القول عنه بأنه مُبدعٌ ومتمردٌ وذو رؤية إنسانية بعيدة، ما جعله في موقع الخلاف والصدام حتى مع أقرانهِ وزملائهِ من الفنانين الأتراك الذين هاجموه عندما قرر الغناء بلغته الأم (الكوردية) في عام 1999، العام الذي حصل فيه على جائزة موسيقار العام، ناهيك عن صدامه مع السلطة السياسية.
استحق أحمد كايا بجدارة اللقب الذي نعت به المسرحي النرويجي إبسن (1828 - 1906)، صاحب كل مشروع رؤيوي وإنساني بـ«عدو الشعب» (عنوان مسرحية للكاتب النرويجي هنريك ابسن).
بدأ الفنان أحمد كايا مشواره الفني مُبكراً في منتصف العقد الثامن من القرن الماضي، إذ كانت تركيا حينها تئن من وقع الانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار السياسي. ولد أحمد كايا عام 1957، في عائلة متواضعة في ولاية ملاطية.
كان الفنان أحمد كايا يتحسس آلام المُضطهدين والفقراء، وجسد هذه المعاناة في أشعاره وأغانيه، ومن يستمع لأحمد كايا يُصاب بالشغف. فقد كان صوتاً مميزاً ومؤثراً، لاقى انتشاراً واسعاً في عموم البلاد وفي البلاد المجاورة لتركيا، لأن موسيقاه وأغانيه كانت مزيجاً من تراث الموسيقى الصوفية والكلاسيكية الشرقية والموسيقى الحديثة التي أخذت تجتاح تركيا منذ السبعينات من القرن المنصرم.
شهدت الساحة الفنية لأحمد كايا، بأنه اقتحم عالم الكبار من الملحنين والفنانين الأتراك، أمثال: المغني والموسيقي الكلاسيكي عدنان شانسيز (1935 – 2013) وكاتب الأغاني والمغني زكي موران (1931 – 1993) ومعزز أرسوي 1958-) وآخرين. ونستطيع الزعم بأنه تُوِّج على قمة الهرم الموسيقي بألحانه الجديدة المميزة وبكلماته المُفعمة بالشجن والعشق للوطن وللحبيبة.
موسيقى أحمد كايا تُجسد حضارات وروح الشرق وجباله وسهوله حيث غنى لها على مقام الصبا والحجاز والعجم والكرد. وفي موسيقاه مزيج من ألحان يونانية وتركية وأرمنية وكوردية وعربية وفارسية، الموسيقى التي حملت بصمات صوفية لتراث غني من الشعر وقصص الجوالين ومآثرهم عن الحب والصداقة والثأر، كسائر القصص العظيمة لمختلف شعوب الشرق.
اعتمد كايا التخت الشرقي في موسيقاه واستخدم ذات الأدوات الموسيقية: القانون والعود والطنبور والدف والغيتار الوتري إلى جانب الساز والباغلمة الأداة الموسيقية المميزة لدى الأتراك. لقد احتفظت موسيقى الشعوب في تركيا الحالية بروح موسيقى الشرق بالرغم من تأثير الغزو الغربي (قيم الدول الغربية والحداثة) في شتى الميادين بالأخص في ميدان الثقافة والآلات الموسيقية الكهربائية. لذا نستطيع تأكيد ما ذهب إليه بعض دارسي موسيقى أحمد كايا بأنه تميز بالأصالة وبقي وفياً للمقامات الموسيقية التي نهل منها ولم يتأثر بالراب والبوب وسائر الأنغام الغربية السائدة.
في قصيدته «أنتم»، يلخص أحمد كايا مسيرة الألم والمعاناة، تلك المسيرة التي تلامس أوجاع وغربة الأم، ورحيل الحبيبة والفراغ الروحي الذي يعاني منه جراء الفقد والشوق.
«أنتم، كيف لكم أن تعلموا مدى ألمي واحتراقي
أنتم... كنتُ مثل النبتة الصغيرة وانقطعت
لقد تعبت... تعبتُ كثيراً».
وفي قصيدة «مثل الرمل» يُشير أحمد كايا إلى معاناة المُدن والموت المجاني وإلى خريف العمر:
«كنا سوية.. نضحك
كانت القنابل تُمطر على المُدن».
يخاطب الشاعر الحياة وكأنه يناشدها أن تكف عن القتل ليكمل مشواره مع حبيبته.
توزعت حياة أحمد كايا بين وطن مسلوب وهجرة اضطرارية بعد أحكام قاسية وسجن متكرر.
هل أثارَ أحمد كايا غضب السلطة التركية؟
في عام 2022 تم إنتاج فيلم سينمائي عن حياة ورحلة أحمد كايا الفنية، الفيلم لم يرَ النور لا في تركيا ولا في بلد آخر، لقد اعترضت عائلته على الفيلم الذي لم يُعالج حياة أحمد كايا بصدق. كان الفنان الراحل خطراً على السلطة التركية: حياً، عندما أعلن في حفل تكريم بأنه كُردي، وفي غيابه أيضاً مازال حضوره طاغياً.
أصبح أحمد كايا وجهاً مألوفاً وفناناً تتملق له الوجوه الإعلامية وبرامج التلفزيون واسعة الانتشار بغية تطويعه لخدمة آلة الدولة، على أمل «تحييدهِ» عن مأسي شعبه والانخراط في جوقة السلطان. وكانت جريمته الكبرى أنه أعلن عن نيته الغناء بلغته الكوردية. لم يكن أحمد كايا حزبياً بالمعنى الضيق للكلمة، ولم تكن السياسة تُشغله عن مُعاناته الوطنية، كان صوتاً لجميع شعوب تركيا، ولعشاقها وللمُتعبين والباحثين عن وطنهم بين ركام المؤامرات الدولية ودسائسها. كان حلم الوطن عند أحمد كايا أكبر من كردستان تركيا، كان فضاءًا أممياً يعشق فيه المرء بحرية ويغني بحرية، تُرددُ فيه الجبال أجمل ألحانه وكلماته لحبيبة يدعوها للاستماع لعزف الساز وللحديث بعد يوم شاق وطويل من العمل.
وإليكم هذا النموذج: وعنوان الأغنية بالتركية Seza Nie Gelmedin
«تعالي يا حبيبتي لسماع معزوفتي
تعالي يا حبيبتي للعتاب وللحديث
لديك النهار لِتُنجزي عملَكِ
فلماذا لا تأتين في الليل؟»
هذه الأغنية أداها عدد من المغنين المرموقين والمغنيات المميزات على الساحة الفنية، لكن لم يستطع أحد من المغنين أو إحداهن أداء تلك الأغنية كما أبدع كايا في أدائها بمرافقة الغيتار الوتري، وآهات العشاق تتجسد في ذلك الصوت الرخيم. رحل أحمد كايا عام 2000 في ذروة عطائه، وترك إرثاً موسيقياً لكل شعوب الشرق لتنهل منه الأجيال القادمة ويضاف لإرث الإنسانية البديع.
ميشيل سيروب
كاتب من سوريا. درس الفلسفة في جامعة دمشق، ترجم عن الفرنسية كتابين حول الشأن الأرمني وتاريخ تركيا