إرث كوردي يحتفظ بذكريات الزمن
في قلب منطقة حرير التابعة لمدينة أربيل، وتحديدًا على تلة صغيرة في قرية ئامۆکان، تقع مقبرة قديمة تنبض بروح التاريخ والغموض. تُعد هذه المقبرة شاهدًا حيًّا على فترة منسية من الزمن، تعود إلى الفترة الإسلامية، حيث أُدرجت عام 2012 ضمن لائحة آثار سوران. تتوسط هذه المقبرة تلة تُعرف باسم "تاوكێ"، وهي تحتوي على ما يقارب مئة قبر، بعضها لا يزال قائمًا بشموخ، وبعضها الآخر تحطم تحت وطأة الزمن والأيدي العابثة.
تتميز شواهد القبور هنا بنقوشها ورموزها الفريدة، كل منها يحمل دلالة على هوية الشخص المدفون فيه. هذه النقوش ليست مجرد زينة، بل هي رسائل من الماضي تعبر عن حياة وأدوار هؤلاء الأشخاص في مجتمعهم. فعلى سبيل المثال، عندما نجد خنجرًا محفورًا على شاهدة قبر، ندرك أن المدفون فيه كان أحد أصحاب السلطة والنفوذ، إذ يُرمز الخنجر والسيف إلى القوة والشجاعة التي كان يتحلى بها هذا الشخص. أما العكاز، فيدل على أن المدفون كان رجلًا حكيمًا وكهلًا، وهو رمز للاحترام الذي كان يُكنّ لكبار السن في المجتمع.
وعند التوقف أمام شاهدة قبر تحمل نقشًا يمثل ثدي المرأة، فإنها تشير بوضوح إلى أن المدفونة هنا كانت امرأة، مما يسلط الضوء على أهمية الأدوار التي لعبتها النساء في ذلك الزمان. وبينما تكشف النقوش على هذه القبور عن هوية المدفونين، تبقى الكثير من الشواهد متضررة بفعل العوامل الطبيعية وأعمال التخريب، حيث سقطت بعضها وتلاشت النقوش من على سطحها.
حكايات شعبية
وفي سعي المجلة لاكتشاف تاريخ مقبرة ئاموكان، أجرت مجلة كوردستان بالعربي مقابلات مع بعض أهالي القرية، الذين رووا قصصًا ورثوها عن أجدادهم حول هذه المقبرة وأبحروا في ذكرياتهم. يقول أحد القرويين: "أجدادنا كانوا يحذروننا من الاقتراب من القبور لأنهم يؤمنون بأنها محمية بروح من سبقونا، وأنه يجب احترام الموتى وعدم العبث بها. لكن للأسف، جاء بعض اللصوص من خارج المنطقة، ودمروا بعض الشواهد بحثًا عن كنوز وهمية".
رؤية أثرية
وفي السياق نفسه، تحدثت المجلة مع الدكتور عبد الوهاب سليمان حسن، مدير مديرية آثار سوران، الذي أوضح أن هذه المقبرة تعود للعائلة المالكة في تلك الحقبة الزمنية، ويُرجح ارتباطها بإمارة سوران، حيث كانت حرير عاصمتها. وبالنظر إلى أن تاريخ المقبرة يعود لما يقارب 400 عام، فإن مقبرة ئامۆکان تُعد موقعًا أثريًا غنيًا ذو قيمة تاريخية يستحق الدراسة والتوثيق العميق، لتسليط الضوء على قيمتها التاريخية الغنية.
لكن رغم هذه القيمة التاريخية، لم تسلم المقبرة من محاولات السرقة والتخريب. فبسبب الاعتقاد السائد لدى البعض بوجود كنوز أو أشياء ثمينة مدفونة داخل القبور، قامت مجموعة من اللصوص بعمليات نبش وتدمير للشواهد بحثًا عن ثروات خيالية لم تكن موجودة في الواقع. وقد قُبض على بعض هؤلاء اللصوص، الذين تبين أنهم جاءوا من إيران، وتمت محاكمتهم وسجنهم.
يؤكد المسؤولون في مديرية الآثار أن المقبرة تتطلب حماية أفضل وتوعية للناس بأن القبور لا تحتوي على أي كنوز، بل هي فقط بقايا إنسانية تُدفن وفق التعاليم الإسلامية بكفن بسيط. ولتحقيق ذلك، تمت مناقشة السبل الممكنة لحماية هذا الموقع المهم، حيث تسعى الجهات المعنية في المستقبل لبناء حائط حول المقبرة لحمايتها من العوامل البيئية والأيادي الطامعة، مع العمل على التوعية المجتمعية بأهمية الحفاظ على هذا التراث.
إن مقبرة ئامۆکان ليست مجرد موقع أثري، بل هي صفحة من كتاب التاريخ الكوردي، تحمل قصصًا عن حياة وحروب وأمجاد عاشها أجدادنا. تتطلع المنطقة إلى اليوم الذي يصبح فيه هذا المكان مقصدًا للزوار ومحبي التاريخ، ليشاهدوا شواهد القبور ويقرأوا من خلالها قصصًا تعبر عن فن النحت والدقة في التفاصيل، وكيف تمكنت الأيدي الكوردية في الماضي من حفر هذه الرموز، التي رغم مرور السنين، ما زالت تحفظ جزءًا من تاريخ شعبٍ استمد قوته من صموده وجمال حضارته.
جيلان محمد شريف
إعلامية كوردية، مترجمة، وناشطة في الشأن الإنساني