«عيد جمّا» صلوات تعانق السماء لعودة المختطفات
«عيد جمّا» صلوات تعانق السماء لعودة المختطفات
November 26, 2024

 

إحتفالية النور والإرادة الإيزيدية

بملابسه الناصعة ولحيته البيضاء، يجلس العم "شيخ الله خضر تموه"، سانداً ظهره على حجر معبد لالش المقدّس، تتنقل عيناه الزيتونيتان بين قباب المعبد، وكأنها تعيد شريط ذكرياته الجميلة التي عاشها مع أقاربه خلال احتفالات "عيد جمّا" أو "عيد الجماعة" الذي يمثل موسم الحج السنوي للإيزيديين، يتوقف شريط الذكريات عند تاريخ أسود أبى أن يُمحى من ذاكرة الإيزيديين، إنه اليوم الذي اجتاح فيه تنظيم "داعش" قراهم واغتصب نساءهم في قضاء سنجار التابع لمحافظة نينوى العراق.

ومع بداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر، حيث تستعد الطبيعة لإستقبال فصل الخريف، تفوح رائحة النباتات  المتجذرة في تراب معبد لالش (الواقع في قضاء شيخان التابع لأراضي إقليم كردستان العراق)، وتملأ المكان بالسكينة والجمال، بينما يكتظ المعبد بالعائلات الإيزيدية التي حملت أمنياتها وجاءت إلى موسم الحج، وتظهر الفتيات الإيزيديات بملابسهن الزاهية، يتسامرن على نوافد المعبد، بينما تبدأ الأمّهات بتحضير طعام الإحتفال.

عيد جمّا (عيد الجماعة)

الجميع مدعو لتناول الطعام، هنا في هذا المكان المقدس، وفي يوم عيد الجماعة، الذي يبدأ في السادس من أكتوبر ويستمر أسبوعاً كاملاً، لابد للضيوف أن يعيشوا هذه التجربة الفريدة، التي تعكس روح الروابط العائلية وتضفي سحراً خاصاً يعبّرعن أقدم الديانات المتجذرة في تراب كوردستان.

يقول العم شيخ الله لمجلة كوردستان بالعربي: نحتفل اليوم بعيد الجماعة، في هذا العيد يتوجه الحجاج الإيزيديون مع رجال الدين وفي مقدمتهم "بابا الشيخ" لزيارة ضريح الشيخ عدي بن مسافر باللهجة العامية (شيخ عادي – شخصية مقدسة في الديانة الإيزيدية)، يطوف الحجاج حول ضريحه ثلاثة مرات، ثم يبدأون بالدعاء، سابقاً كان لدينا الكثير من الأمنيات، زواج البنات، شفاء المريض، عودة المسافر، لكن الآن لم يعد في جعبتنا سوى دعاء واحد نردده في كل صلواتنا واحتفالاتنا، هو عودة بناتنا المختطفات اللواتي مازالن في قبضة تنظيم "داعش".

تتلألأ الدمعة في عيني العم شيخ الله، رافضةً أن تسقط على مقلتيه، يحرك جسده قليلاً، ويستعد للإجابة على أسئلتي، يقول: منذ شهر آب/ أغسطس الأسود عام 2014، عندما هاجم تنظيم "داعش" قرانا في سنجار، واغتصب نساءنا، وحتى الآن لم أشعر بالفرح أبداً، تُكمل الحياة مسيرتها، تتزوج الفتيات، أشارك في حضور أعراسهن، لكن هذه الدمعة العالقة في عيني تعكس جرحاً عميقاً مازال ينزف بداخلي

 

تعميد الستائر السبعة

داخل معبد لالش، لا يحتاج الضيوف أن يسألوا أحداً عن الطريق، جمال الكمان يجذب الأنظار ويشد القلوب، يفضّلون أن يكتشفوا أسراره بأنفسهم، وفي إحدى ساحات المعبد تجلس عدة فتيات مع شاب نحيل الجسد يتربع على الأرض ويضع في حجرته سلةً من القش مملوءة بالقطع القماشية ذات اللون الواحد، يقول العم شيخ الله: نسمّي هذا الطقس من العيد بـ "تعميد الستائر السبعة".

ويشرح العم شيخ الله: في العاشر من أكتوبر، يشتري أي إيزيدي يريد أن يقدم نذوراً للأضرحة قطعة قماش كبيرة، يذهب بها إلى عين البيضاء، وهو عين ماء مقدس لدى الإيزيديين، يغطسها بالماء ويحملها على رأسه ليقدمها نذراً لمعبد لالش، تقوم الفتيات بتجهيزها في ساحة المعبد لتعليقها.

أمنيات خجولة

بعد مرور 10 سنوات على الإبادة الجماعية التي ارتكبها تنظيم "داعش" بحق الأقلية الإيزيدية في العراق، مازالت الفتيات الإيزيديات يحافظن على ابتسامة تُخفي وراءها حلماً خجولاً بتكوين عائلة صغيرة وبيت دافئ، أو لربما طموحاً برّاقاً باكتشاف الحياة من جديد. تجلس الشابة بروين على أدراج معبد لالش مع صديقتها نورشين، تحاول التقاط قلم تخطيط الشفاه الأحمر، لتعدّل زينتها، تضحك ضحكة خجولة وتقول: جئت اليوم لاحتفل بالعيد وأدعو الله أن يرزقني زوجاً وسيماً محباً أشاركه بقية حياتي. 

ترسل السيدة جاندة نظرة عتاب لإبنتها بروين، وكأنها تخبرها: لا يجوز أن تقولي ذلك أمام الصحافة، تحوّل نظرها باتجاهي وتقول: الفتيات يأتين إلى العيد للدعاء، منهن يرغبن بالزواج، بعضهن الآخر يدعو الله لينجبن أطفالاً، أما القسم الأكبر يدعون بعودة جميع الفتيات الإيزيديات المختطفات لدى "داعش".

شوربة السماط

تحاول السيدة جاندة الوقوف، تهتز مع حركتها الليرات الذهبية المصفوفة حول معصم فستانها الكردي الملوّن، تقول: تعالي معي! نصل إلى تجمّع نسائي إيزيدي غاية في الجمال، حيث تجلس السيدات الإيزيديات على الأرضية داخل معبد لالش، تصتف حولهن أطباق شوربة السماط، تقول جاندة: تحظى أكلة السماط بشعبية واسعة لدى الديانة الإيزيدية، نحضّرها في مناسباتنا الدينية، وهي عبارة عن شوربة حبوب القمح مع اللحم، تسمى بالعربية "الهريسة".

ألمانيا هنا

تبدو اللغة الألمانية مألوفةً هنا، ولم تكن كذلك قبل أب/ أغسطس 2014، حيث تعد ألمانيا من أكثر الدول التي أعطت اهتماماً بالغاً بالإبادة الجماعية التي ارتكبها "داعش" بحق الإيزيديين، كما أن الحكومة الألمانية استقبلت معظم طلبات الناجيات الإيزيديات للقدوم إلى ألمانيا، وفي عيد الجماعة تزور العائلات المهاجرة معبد لالش، حاملة معها لغتها الجديدة وأدعيةً بعودة ميمونة لأقاربها من قبضة التنظيم.

تحاول شيرين أن تستذكر لغتها العربية للإجابة على أسئلتي، تقول: غادرتُ العراق في العام 2019، أعيش الآن في برلين وأدرس أيضاً، تعلمت اللغة الألمانية، أحاول نسيان الماضي، لكن جرحنا سيبقى مفتوحاً حتى عودة كل النساء الإيزيديات إلى منازلهن في سنجار، نؤمن أن أي فتاة تعرضت للاغتصاب القسري على إيدي عناصر "داعش"، عندما تزور معبد لالش وتشارك في طقوس الحج، تُمحى عن جسدها كل لمسة رجل ظالم، وتُكتب لها حياة جديدة بلا ماضٍ أسود

 

طقس السماء

شارفت رحلتنا على الإنتهاء، بدأت الشمس بالغروب، وتحوّلت السماء إلى اللون الوردي الممزوج مع الأزرق الداكن، في هذه اللحظات التي تودّع الشمس فيها السماء، يبدأ الإيزيديون طقساً مقدساً من طقوس عيد الجماعة وهو "طقس السماء"، حيث ترتفع صلوات الرجال والنساء إلى السماء، بلغتهم الكوردية يدعون الله أن يحفظ بلادهم، ويبعد عنهم الفيضانات والسيول، ويشفي المرضى، يبقى الدعاء الأبرز هو عودة أكثر من 1000 فتاة إيزيدية مازلن إلى الآن بقبضة "داعش". 


سهى كامل

صحفية سورية مقيمة في كوردستان


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved