منذ آلاف السنين، شكّل اللبن، الذي يُطلق عليه بالكوردية (ماست)، عنصراً جوهرياً في النسيج الثقافي الكوردي. فهو ليس مجرد غذاء، بل يمثل جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للكورد، متغلغلاً في تقاليدهم وقيمهم المجتمعية وهويتهم الثقافية.
يقول المثقف الكوردي والخبير في فنون الطهي دارا محمود: «اللبن يحتل مكانة خاصة في ثقافتنا الكوردية، فهو متجذر بعمق في تقاليدنا». ويضيف أن اللبن يتجاوز كونه مجرد طعام، بل هو «عنصر أساسي في المطبخ الكوردي، يشكل قاعدة للعديد من الأطباق التقليدية».
في المنازل الكوردية، يعتبر اللبن جزءاً أساسياً من كل وجبة، خاصة في وجبة الإفطار. يصف محمود المشهد المألوف: «الإفطار الكوردي التقليدي يتمحور عادة حول طبق كبير من اللبن، حيث يُغمس الخبز أو يُمزج فيه. والسؤال ليس ما إذا كان سيتم تقديم اللبن، بل كم من الخبز سيرافقه».
خلال فصل الشتاء، يكتسب اللبن أهمية خاصة. فمحتواه العالي من الطاقة وفوائده الصحية وسهولة هضمه تجعله غذاءً مثالياً للأشهر الباردة. وفي التجمعات العائلية، تتحول وجبة اللبن البسيطة إلى تجربة جماعية، حيث تُقدم أوعية كبيرة ويتشارك الجميع في تناولها، مما يعزز الشعور بالترابط ويؤكد على الروابط الثقافية.
يلعب اللبن دوراً محورياً في التفاعلات الاجتماعية والضيافة الكوردية. يوضح محمود: «تقديم اللبن للضيوف جزء أساسي من عاداتنا وتقاليدنا. غيابه قد يُفسر كنقص في الدفء أو الترحيب». ويضرب مثالاً على ذلك قائلاً: «عندما يسأل قريب من مدينة أخرى عما يجب أن يجلبه عند زيارته، يكون الجواب غالباً (ماستا)، مما يبرز الارتباط العاطفي العميق للكورد باللبن». وجود الزبادي يعد لفتة من الكرم وإشارة إلى الترحيب وتعبير عن الفخر الثقافي عند الكورد.
في المناسبات الثقافية والاحتفالات، يحتفظ اللبن بمكانته المهمة. فخلال حفلات الزفاف والأعياد الدينية، تُعد أطباق خاصة تحتوي على اللبن لتكريم المناسبة. على سبيل المثال، يُعد (كير)، وهو حلوى مصنوعة من القمح واللبن، عنصراً أساسياً في هذه الأحداث، وله جذور في المناطق الكوردية مثل نوشهر في تركيا. بالنسبة للشعب الكوردي، اللبن ليس مجرد عنصر غذائي، بل هو أداة ثقافية تحمل تاريخاً غنياً ومعنى رمزياً عميقاً.
يتعدى دور اللبن الجانب الغذائي ليشمل استخدامات أخرى. فهو يُستخدم لأغراض النظافة، وتغذية الرضع، وحتى كعلاج لأنواع مختلفة من الآلام الجسدية. كما يُعتقد على نطاق واسع أن له فوائد صحية، مثل تهدئة مشاكل الهضم وتقوية جهاز المناعة أثناء المرض.