لم يصلني أي إخطار بإلغاء رحلة المغادرة فجرًا من إربيل، تفاجأت بذلك في المطار، فكان عليّ التواصل مع شركة أخرى للحاق بطائرة الظهيرة. أجلس في مقاعد الانتظار بمطار اربيل، كان المكان هادئًا، ونفسي أيضًا كانت كذلك. في البلد طاقة هدوء وطمئنينة استشعرتها من لحظة وصولي قبل أسبوع. رغم إلغاء الرحلة بدت وجوه المسافرين مطمئنة، لم يكن هناك أصوات عالية أو تذمر، الناس كانت تدردش مع بعضهم بهدوء، سيدتان تتحاوران بصوت مسموع لأكثر من عشر دقائق، حتى التفتت أحدهما ناحية الشاب الجالس بجانبي وسألته "يا ابني هل تترجم لي ما تقول هذه المرأة؟ أنا لا أفهم الكردية" " كل هذا الوقت تتحادثان وأنتِ لا تفهمين ما تقول؟ يسألها ضاحكًا، "مو آني قلت يمكن أفهم، بس والله ما أعرف اللغة". تقول السيدة العراقية، نضحك على هذا الموقف يقول لها الشاب الكوردي مداعبًا "ولكن لماذا لا تتعلمون لغتنا، نحن تعلمنا العربية"، تجيبه السيدة بعفوية: أنتم أبطال، أما نحن العرب فقد أنهكنا التعب. وضعت حقائبي على المقعد واتجهت إلى المقهى القريب لأجلب القهوة، بينما قام محمد الشاب الكردي الظريف بدور المترجم بين السيدتين. في أربيل بدا كل شيء هادئًا ومنظمًا، كنت قد حرصت على تمديد رحلتي يومين كي آخذ لمحة عن أربيل بعد رحلة المؤتمر في دهوك بدعوة من اتحاد الكتاب الكرد لمؤتمر دهوك الثقافي السابع حيث التقيت بالناس والمكان. أستطيع القول إنها واحدة من أجمل الرحلات التي أخذتني إليها الكتابة. أتساءل أحيانا من يؤثر على الآخر ويحدد هويته، هل تنعكس طاقة الانسان الطيب المكافح على المكان الذي يعيش فيه فيجعله مكانًا مضيافًا صافيًا أو تنعكس طاقة المكان الجغرافي على الانسان الذي يقطنه فيجعله صامدًا متوازنا مثل جبل شاهق أو سهل فسيح؟ في كردستان بدا كل شيء متداخلاً بسلاسة، الجبال والطبيعة والناس، فيها قوة لكن بلطف، لا شيء قاسٍ أو حاد أو عشوائيًا وضاجّ، كل شيء بدا واضح وصريح هادئ ومصرًا على الجمال بكل عفوية. وكأن الانسان الكوردي قد عرف جوهر الحياة بعد رحلة شاقة مريرة فاسترخى على عرش وجوده. يعمّ المكان احتفاء شفاف بجمال الحياة، والرضا، بدت النفوس رضية... ماذا كنت أعرف أنا عن كوردستان؟ لا شيء في الواقع، سوى بعض اللمحات عن زيهم التقليدي ذو السروال الفضفاض بحزام عريض في الوسط وعمامة مميزة على الرأس، وعيد لم أفهمه أبدًا لكن كان دوما يعجبني اسمه النوروز، وبعض العناوين الإخبارية عن الثورة والصراع وأسماء البشمركة والبارزاني والطالباني كما كانت تتردد في نشرات الأخبار التي حرصت لاحقًا على مقاطعتها حرصًا على سلامي النفسي، لم أفهم أبدًا لماذا كان الصراع والظلم والطغيان وفي الحياة متسع للجميع، ثم كانت مشاهد من حلبجة؛ السُبّة في تاريخ الإنسانية، أتذكر مشاهد رمادية لأشخاص قرويين، نساء على عتبة الدار الصغيرة، طفلة تطلّ من نافذة، رجل يحرث حقلًا، كلهم في أوضاعهم مقتولين بفعل غازٍ سامّ، لا أتذكر كيف وصلنا في مدينة العين شريط فيديو المذبحة الكردية في التسعينات، لكن أتذكر أني ظللت لأشهر عديدة أعاني الأرق ونوبات بكاء ليلية.
في دهوك بدت الحياة صافية، كأن لم تعرف كدرًا قط. يسألني محمد عبدالله نائب رئيس الاتحاد إن كنت قد شعرت بالملل في إحدى الندوات التي دارت في معظمها باللغة الكردية التي -بطبيعة الحال- لا أجيدها، أجبته: الحقيقة أنني أشعر بأني أفهم، بالتأكيد لا أفهم حرفيًا ولكن احساسي يقول أني أفهم، وأنا أصدق احساسي حين تصفو النفس وبالقطع بلغت الصفاء -أو عتباته- في أجواء دهوك الرائقة. اللغة تبدو مألوفة على السمع بذات الحروف لكن بترتيب لفظي مختلف يجعل الكلمة مختلفة ولكن ويا للعجب يصل المعنى - وإن إلى حد ما. هناك طاقة ود انساني طاغية في المكان، وفي وجوه الناس. وفي هكذا أماكن أي انسان سيشعر بالانتماء وبأنه "يفهم"، والانتماء للإنسانية دائمًا كان هو مسقط الروح.
أخبر إسراء الفتاة الكردية الجميلة التي تعمل في مقهى فندق جيان البديع أني أريد فتح النافذة، أشارت لي بابتسامة أن تفضلي بالتأكيد. فتحت النافذة الكبيرة على مصراعيها على منظر أشجار السرو الوارفة في الحديقة والجبل المهيب في البعيد. أحب أن أشرب قهوتي مع الطبيعة، ثم يأخذني التأمل. كان يومي الأول في دهوك، جئت باكرًا قبل بقية ضيوف المؤتمر لظروف توفر رحلات الطيران من أبوظبي. قلت لا بأس سأمكث يومين اكتشف المكان قبل الانهماك في ندوات المؤتمر. كنت قد وصلت لأربيل في الصباح الباكر، أخذتني السيارة طوال الطريق الممهد إلى دهوك حيث الجبال على امتداد البصر وحقول الأرز ومحاصيل الأرض الخصبة كل في موسمه، اختار السائق تشغيل أغان خليجية خلال الطريق كبادرة ترحيب لطيفة لكن طلبت منه أن استمع للألحان الكردية وقد كانت الموسيقى العذبة تنساب مع انسياب المشاهد الجبلية وكل تلك السهول الشاسعة حيث تشعر الروح بالانعتاق من ركود الأيام المكررة والأفكار المسبقة السطحية وترحل إلى عمق تجربة انسان آخر يبدو ظاهريًا مختلف وما إن تقترب تشعر وكأنك تنظر إلى نفسك في المرآة. وأشعر بالامتنان لقصصنا الصغيرة التي نكتبها في مكاننا فتأخذنا لنرى قصص الناس الكبيرة في أماكن أخرى.
أفتح شرفة غرفتي التي تطل على الجبال والمدينة النائمة في حضن الجبل، ارتشف فنجان قهوتي حين يردني اتصال من الاستقبال بأن ضيفة في انتظاري ببهو الفندق، كانت "تيروش" الشعاع الذي يخترق الظلام كما يعني اسمها بالكوردية، شاعرة كوردية حدثتني مطوًلا عن تاريخ البلد والكلمة الشعرية، وانتابتني رغبة أن أعرف معنى كل كلمة وبدا لكل اسم معنى شاعري شجي وحزين وكأن أسماء الكورد الحزينة تعبيرًا عن شغف معذب للحياة المبهجة التي يتوقون إليها بالرغم من تجاذبات الصراعات التاريخية الدامية.
في يوم تال يأتي حسن سليفاني ومحمد عبدالله وإسماعيل هاجاني وسلام بالاي وبيار بافي، كتابا وشعراء، يهدوني بعض كتبهم، ونتبادل الكثير من الحديث والضحك، وانسانًا تضحك معه على ذات الدعابة هو رفيق في ذات القصة الإنسانية. يعتذر حسن سليفاني عن انشغاله في جولاته الانتخابية أقول له مشاكسة هل تبيع الأدب لأجل السياسة يضحك ويدافع بياربافي عن الثقافة التي تضفي للسياسة بعدها الإنساني، يهديني إسماعيل هاجاني كتابه القصصي البديع حول الأحلام التي يراها الانسان في ذاكرته ويعوًل عليها تفسير حياته، أقرأ مقال عنه يصفه برائد الواقعية السحرية الكردية، يكتب اسماعيل "من قمة مرتفع قفز الشاهين ونشر جناحيه محلقا فوق الغيوم. في غمرة طيرانه راح يحدق في الأسفل ناظرًا إلى موئل كثير الكلأ وفي غاية الجمال، وبقدر مساحة وطن صغير احتجز له منطقة تحت سيادته..." من كتابه "مذكرات ميت".
وفي ديوانه جسد الليل، يكتب سلام بالاي في قصيدته الأنفال "الوقت كان مبكرًا، لا الأطفال توجهوا للحيطان المشمسة، ليكملوا ألعابهم، لا كلاب القرية مع الرعيان، توجهت نحو التلال المشمسة، ولا حكت النساء أحلامهن لأحد، عاصفة هبت وكلهم نيام، لا الجبال تمكنت أن تصير مصدات، ولا صارت الكهوف لهم ملجأ..."
يهديني حسن سليفاني، رئيس اتحاد الكتاب الكورد، انطولوجيا الشعر الكوردي التي قام بترجمتها في مسيرة متصلة لترجمة الأدب الكردي إلى العربية؛ وفي الترجمة جسر انساني نبيل يبنيه المترجم بعصارة روحه رتقًا لأي شقوق في عملية التواصل الإنساني، تضم الانطولوجيا أعمال نخبة من الشعراء الكورد المعاصرين
"إن أردتم أن تعرفوا وطني
افتحوا باب النار والشمس
ستطير اليكم
عصفورة تحب الناس بألوانها السبعة" الشاعر الكوردي بركن بره
"التقيا
لم يفهم أحدهما لغة الآخر
ابتسما لبعض
تركا اللقاء لوحده في محل الموعد" الشاعر الكوردي شمال آكريي
كانت الشوارع تزدان بصور المرشحين للانتخابات البرلمانية التي تم تأجيلها أكثر من مرة ثم أنجزت أخيرًا، وكانت صورة حسن سليفاني بين المرشحين تطل بين تقاطع وآخر، أقول له سأعطيك صوتي لو منح لي حق التصويت، يقول صوتك وصل.
مثل عنقاء تخرج من رمادها، يخرج الشعب الكوردي من رماد الصراعات التاريخية متشبثًا بهويته متجهًا بإرادة ثابتة راسخة نحو التنمية والإنجاز واعمار الأرض والاحتفاء بالحياة بألوانها الزاهية.
وحينها عرفت أن "نوروز" تعني يومًا جديد.
تكتب الشاعرة الكردية ديا جوان
"بيتنا يقع في صدر القرية
قريتنا في مقدم الجبل
جبلنا في قلب كردستان
وكردستان في قلبي"
مريم الساعدي
كاتبة إماراتية