حمل رسالة التعليم مثلما حمل رسالة المسرح وبندقية المقاتل. يؤمن بأن الفن مهمة نضالية تحريضية ينبغي أن تكرس لخدمة الوطن وتنوير الناس وتوعيتهم، وجسد ذلك عملياً بوقت مبكر من حياته عندما انخرط في الثورة الكوردية، من خلال نشاطه المسرحي الهادف أولاً، وبعدها من خلال الالتحاق ميدانياً بقوات البيشمركة. ذاق مرارة التهجير والمنافي. يتمنى أن يتصالح المسرح الكوردي مع جمهوره، وأن يأخذ الفن الكوردي طابعه القومي الخاص والمميز إسوة بباقي الشعوب والأمم، وأن يتحرر الشعب الكوردي من «عنصرية» الآخرين، وأن يدفن في «دولة كوردستان الحرة الأبية».. إنه الرائد المسرحي حمه رشيد هَرَسْ.
بداية مبشرة
ولد كاك حمه في حلبجة عام 1948، قبل أن ينتقل مع عائلته إلى السليمانية حيث شغل والده منصب مدير البريد فيها، ليكمل دراسته حتى تخرج من معهد المعلمين عام 1969. ومن خلال مدرس التربية الفنية بالمعهد، الأستاذ عبد القادر نوري، بدأ أولى خطواته في التمثيل، عندما شارك بدور فتاة في مسرحية بعنوان (القرار والنتيجة) للكاتب الكوردي أمين ميرزا كريم، مع طلاب آخرين، منهم عثمان جيوار، وكمال دلشاد، وعبدول حمه جوان، ورؤوف حاجي سعيد، وجميل شازمان وصلاح صالح يونس.. وكانت تلك المسرحية «اللبنة الأولى في أساس المسرح الكوردي المعاصر»، بحسب رأيه.
ويرى كاك حمه، أن المسرحيات الكوردية التي سبقت مسرحية (القرار والنتيجة)، لاسيما تلك التي قدمتها فرقة رفيق چالاك (فرقة جمعية الفنون الجميلة) كانت «بدائية ومفتقرة للقواعد المسرحية بنحو عام»، ويضيف: لكنها كانت «تحظى بمتابعة جماهيرية كونها كانت حماسية ومناصرة للحركة التحررية وتسهم في تعبئة المجتمع وتشخيص أوضاعه».
وكان هَرَسْ كغالبية أبناء جيله، مناصراً لثورة أيلول 1961، وانتمى لاتحاد طلبة كوردستان عام 1962، ومن ثم للحزب الديمقراطي الكوردستاني عام 1967.. وبعد تخرجه من معهد إعداد المعلمين، عمل معلماً في قرية هاوديان بمحافظة أربيل، ومارس هواية التمثيل المسرحي، وشارك في عدة مسرحيات منها «نوروز»، و«العبقري» المأخوذة عن قصة لجبران خليل جبران، و«حفار القبور» للكاتب الكوردي أحمد دنكوره، و«تاجر البندقية» لشكسبير و«فندق الغرباء» للكاتب ثامر مطر.
كما شارك الفنان حمه رشيد هَرَسْ عام 1973 في تأسيس (فرقة المسرح الطليعي الكوردي)، بهدف توعية المجتمع وتنويره، مع كل من رؤوف حسن، وأحمد سالار، والشاعر دلشاد مريواني، وكمال صابر، طه باراوي ومصطفى أحمد.. وفي عام 1974 شارك في مهرجان الفن الكوردي الذي أقيم بالعاصمة بغداد بمسرحية «عاقبة الطمع».
الالتحاق بالثورة الكوردية
وفي نيسان / أبريل عام 1974، وعملاً بالمثل القائل «لا صديق للكورد سوى الجبال» انضم لقوات البيشمركة، وعمل مذيعاً في إذاعة الثورة الكوردية في قرية (مني خيلان) بمنطقة حاج عمران قرب الحدود الإيرانية (تبعد عن مركز محافظة أربيل حوالي 180 كلم)، كما أسهم في إعداد مقالات للإذاعة التي بقي فيها إلى أواخر عام 1975.
وبعد اتفاقية الجزائر (اتفاقية وقعت في الجزائر بين العراق وإيران في 6 آذار/ مارس عام 1975 بين نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين وشاه إيران محمد رضا بهلوي بإشراف الرئيس الجزائري هواري بومدين)، عاد كاك حمه إلى السليمانية، وشارك في عدة مسرحيات سياسية لحث الجمهور على «عدم الرضوخ للطغيان والتبشير بالثورة» بحسب قوله، منها «رجب وآكلي لحوم البشر»، و«الإجازة» للكاتب المسرحي المعروف محيي الدين زنگنة، و«عطيل» لشكسبير.
وفي عام 1980، انضم الفنان حمه رشيد هَرَسْ، لجمعية الفنون الجميلة في السليمانية، وفي عام 1981 شارك في مسرحية «سلانانكر» المأخوذة من رواية «النخلة والجيران» لغائب طعمة فرمان. وفي 1982 شارك في مسرحية «التنكة» للكاتب الكوردي التركي يشار كمال، كما أعد نسخة كوردية من مسرحية «الميراث» للرائد المسرحي العراقي قاسم محمد، التي أحدثت ضجة كبيرة في السليمانية.. كما أعد عام 1984 مسرحية «الرجل الغريب» عن قصة ليشار كمال.
استدعاء للأمن وبدء رحلة المنافي
في عام 1985 ألف مسرحية سياسية بعنوان «گلالة» مأخوذة عن قصة بلغارية، أحدثت هي الأخرى ضجة كبيرة، ما أدى إلى استدعائه إلى دائرة أمن السليمانية، للتحقيق معه وتهديده بالقتل إذا لم يؤلف بالمقابل مسرحية تمجد (قادسية صدام). وبهذا الصدد يقول:
«كانت ورطة كبيرة لم أتخلص منها إلا بقدرة قادر حيث طلبت منهم مهلة أسبوعين ليتسنى لي التملص من تأليف المسرحية المطلوبة»، ويواصل «ما أن خرجت من دائرة الأمن حتى قررت الهرب مع عائلتي إلى إيران لأبدأ رحلة سندبادية قادتني إلى سوريا ثم قبرص وبلغاريا ومنها اعتقلت وتمت إعادتنا إلى قبرص حيث بقينا شهرين في سفينة حتى قبلت الأمم المتحدة طلبي كلاجئ سياسي، ونقلتنا إلى اليونان لنبقى سنتين ونصف في مخيم لاجئين قبل أن أتمكن عام 1989 من الهجرة إلى كندا».
مسرحيات ومسلسلات
يتابع كاك حمه قائلاً، في كندا «قمت بتأليف وإخراج وتمثيل مسرحية مونودراما (من أشكال المسرح التجريبي القائمة على ممثل واحد يسرد الحدث عن طريق الحوار) عنوانها «حياة إنسان كوردي» عرضت عام 2004 في تورنتو وهاملتون ولندن كندا قبل أن يتم عرضها لاحقاً في السليمانية وأربيل»، ويبين أن المسرحية «تجسد نضال الإنسان الكوردي وما تعرض له من معاناة واضطهاد وقهر».
ويضيف هَرَسْ «ألفت مسرحية سياسية أخرى عام 2006 باسم (التافه) تدور أحداثها عن إنسان ارتكب العديد من الآثام والجرائم قبل أن يعاني من تأنيب الضمير»، ويوضح أن المسرحية «عرضت في كندا ومن ثم في أربيل والسليمانية ودهوك».
وفي عام 2009 عاد كاك حمه إلى السليمانية، للمشاركة في مسرحية «مأساة عائلة» من تأليف عابد هَورامي، وبعدها في مسلسل «ريحانة» الذي ينتقد بعض الممارسات العشائرية السلبية. وفي عام 2011 شارك في مسلسل درامي سياسي هو «آخر قرار ليعقوب»، كما شارك في أفلام قصيرة من أهمها «البيت والمفتاح» من تأليف وإخراج شوان عطوف، الذي يتناول مأساة شعب كوردستان، ووطنه المشتت بين أربع دول، من خلال شخص لديه أربعة أبناء، قتل كل واحد منهم في أحد أجزاء كوردستان الموزعة على العراق، وسوريا، وتركيا وإيران، وقد نال الفيلم 17 جائزة دولية في أمريكا وإيطاليا والهند وغيرها.
وبشأن جديده، يقول الفنان الرائد حمه رشيد هَرَسْ، إن من بين أعماله الجديدة «بطولة مسلسل درامي عنوانه (المستأجرون) من ثلاثين حلقة، من تأليف الكاتبة الكوردية من مدينة سنندج الإيرانية (سنه)، شعلة شريعتي، وإخراج الفنان السوري غسان عبد الله ويؤمل أن يعرض قريباً في فضائية كوردستان تي في»، مضيفاً: كما أنني «مثلت دور الأب في فيلم يتناول عائلة كوردية تعاني من الاضطهاد القومي فاقم الزلزال الذي ضرب منطقتها من مأساتها وهو من تأليف الكاتب التركي المقيم في هولندا إبراهيم قره تاي».
ويتابع، كما «ألفت كتاباً عنوانه (عندما كنت مذيعاً لصوت كوردستان) صدر عن مؤسسة گولان في أربيل»، ويلفت إلى أن الكتاب «تناول مذكراتي إبان مشاركتي بالثورة الكوردية عامي 1974 و1975 في منطقة حاج عمران».
وهكذا فإن مسيرة الفنان حمه رشيد هَرَسْ تثبت امتلاكه مواصفات الممثل الناجح، إذ يتميز بـ«إحساسه المرهف والتجديد وتنوع الأدوار سواءً في المسرح أم السينما أم المسلسلات التلفازية»، بحسب المخرجين الذين عمل معهم أو الذين يعرفونه.
دعوة للتصالح مع الجمهور
وعن واقع المسرح الكوردستاني الحالي، يرى كاك حمه، أنه «أصبح مسرحاً تجارياً ترفيهياً بعيداً عن الفن الهادف الأصيل حيث يركز على الجوانب الفكاهية ولا يتصدى لمشاكل المجتمع وهمومه باستثناء حالات نادرة»، مؤكداً على ضرورة أن «يتصالح المسرح الكوردي مع جمهوره وأن يفهم الفنان الكوردي دوره الريادي والتنويري من خلال الأعمال الهادفة التي تجسد واقع المجتمع وتاريخه ونضاله فضلاً عن التصدي لمشاكله ومعاناته، وبذلك يكسب احترام الجهات الرسمية المعنية وقبلها الجمهور».
إلى ذلك يدعو إلى ضرورة «توفير قاعات عرض مناسبة والاهتمام بإعداد وتأهيل الملاكات القادرة على النهوض بالحركة الفنية من مؤلفين وكتاب سيناريو ومخرجين وموسيقيين ومتخصصين بالديكور والإضاءة والصوت والمونتاج وباقي المتطلبات اللازمة للأعمال الفنية»، مطالباً الجهات المعنية بـ«معالجة مشكلة نقص التمويل الذي يعاني منه الوسط الفني والأدبي، وإدراك ما للثقافة والفنون من أهمية كقوة ناعمة لتعريف العالم بقضايانا المصيرية».
أمنيات
وقبل أن نودع الفنان الرائد حمه رشيد هَرَسْ، سألناه عن أمنياته، فتنهد وسحب نفساً طويلاً من سيجارته، التي لم تفارق شفتيه طوال الجلسة، وكانت تشاركه الإيماءة والكلام، قبل أن يرد قائلاً «أتمنى أن أدفن في دولة كوردستان الحرة الأبية وأن يتحرر الشعب الكوردي من عنصرية الآخرين وأن يأخذ الفن الكوردي طابعه القومي الخاص والمميز إسوة بباقي الشعوب والأمم»، وواصل وأن «يدرك الفنان الكوردي أهمية دوره التنويري في المجتمع مثلما تدرك الجهات الرسمية المعنية أهمية الفن والثقافة في حاضر الأمة ومستقبلها وتوليهما الاهتمام المطلوب والدعم المناسب».
باسل الخطيب
صحفي عراقي