السيدات والسادة الحضور، نجتمع اليوم كمثقفين عرب وكورد، لأول مرّة، لنناقش القضايا المشتركة التي تهمّنا بانفتاح حر، والهدف هو البحث في المشتركات الإنسانية والسعي لوضعها في إطارها الحقوقي والقانوني من دون إكراه أو إقصاء أو تأثيم أو تجريم، ونفعل ذلك ونحن نتطلّع إلى الحريّة والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة.
وهذا لا يعني عدم وجود خلافات أو تعارضات، بل ملاحظات لكل طرف على الطرف الآخر، علماً بأن وجهات النظر التي يتم التعبير عنها، حتى وإن كانت سياسية أو حزبية، إنما هي وجهات نظر فردية، ونحن لا نجتمع كفريقين متقابلين، وإنما في الفريق الواحد ثمة تباينات واتجاهات متعدّدة، وما نسعى في الوصول إليه هو البحث عن الحقيقة.
وستكون القاعدة التي نجري الحوار بشأنها هي المسألة القومية في ميدان حقوق الإنسان، وبالتحديد سنتناقش حول موقع القضية الكوردية في خطاب حقوق الإنسان، وخصوصاً حقوق الإنسان الجماعية بما فيها «حق الشعوب والأمم في تقرير مصيرها».
اخترنا هذا الموضوع للحوار لسخونه القضية وراهنية الحدث وإشكالية الحلول المطروحة، ولأهميتها على صعيد أوضاع الحاضر والمستقبل، فضلاً عن ارتباطها الوثيق بقضايا الديمقراطية والاستقرار والسلم والتقدم والتنمية في المنطقة عموماً، لاسيّما في العراق وإيران وتركيا وسوريا وأرمينيا وأذربيجان.
لقد شهدت القضية الكوردية أحداثاً مهمة وتطورات دراماتيكية مؤخراً وفي السنوات القليلة الماضية. فإضافة إلى القمع والاضطهاد المزمنين، تعرّضت منطقة كوردستان العراق خلال الحرب العراقية - الايرانية، لاسيّما في ظلّ التداخل الإيراني، ووجود المعارضة الكوردية واليسارية، إلى إجراءات استثنائية، ناهيك عن استثناءات الحرب ذاتها، حيث طالت هذه الإجراءات تهجيراً سكانياً شمل ما يزيد عن 4500 قرية، وجرى تشريد سكانها الآمنين وقُصفت حلبجة بالسلاح الكيماوي، وراح ضحية «عملية الأنفال» نحو 180 ألف مواطن كوردي بريء.
وفي أعقاب حرب الخليج الثانية، إثر احتلال النظام العراقي للكويت، شهدت منطقة كوردستان العراق أحداثاً خطيرة أيضاً، منها انتفاضة آذار / مارس 1991، والتي أعقبتها هجرة جماعية مرعبة دفعت الأمم المتحدة إلى إصدار القرار 688 الخاص بكفالة احترام حقوق الإنسان ووقف القمع الذي تتعرّض له المناطق الكوردية وبقية مناطق العراق، وذلك في 5 نيسان / أبريل 1991. ولاعتبارات دولية وإنسانية تمّ إنشاء المنطقة الآمنة (Safe Haven)، ثم تم فرض الحصار الدولي على العراق، والذي شمل كوردستان، وبعدها في نهاية عام 1991، سحبت الحكومة العراقية موظفيها وإداراتها، الأمر الذي أحدث فراغاً إدارياً، حاولت الجبهة الكوردستانية ملأه، وهكذا أخذت على عاتقها إجراء الانتخابات البرلمانية، فتشكّلت حكومة كوردستان (الأولى)، التي أعلنت بعد بضعة أشهر الاتحاد الفيدرالي في 4 تشرين الأول / أكتوبر 1992 عن طريق البرلمان الكوردستاني، وحصل خلال تلك الفترة القتال المؤسف بين حزب العمال الكوردستاني اﻟ PKK وقوات الجبهة الكوردستانية.
إن الجدل على الساحة الفكرية لا يقل سخونة عن الساحة السياسية حول حقوق الشعب الكوردي القومية، فما هي الصيغة المناسبة للعلاقة مع الشعب العربي وشعوب المنطقة؟ هل هي حق تقرير المصير؟ وتأسيس دولة كوردية أو أكثر؟ وهو الحد الأقصى حين يُصبح التعايش مستحيلاً، أم ثمة تدرّج وتفاعل يستند إلى المواطنة الكاملة والمتساوية واحترام الحقوق السياسية والثقافية، بحيث يتم التعبير عنها بصيغ مختلفة ابتداءً من الحكم الذاتي ومروراً بالفيدرالية أو الكونفيدرالية، في إطار دولة موحّدة ومتعددة الثقافات، وهو ما يطرح سؤالاً راهناً في ظلّ النظام العالمي الجديد، إذ تنبعث الهويّات الفرعية رغبةً في التعبير عن نفسها ضدّ الاستلاب والحرمان من الحقوق، بالرغم مما يصاحب ذلك من احتدام وتفلّت وتفتيت للدولة الوطنية. فما هو السبيل لحلّ سلمي متوازن يلبّي الحقوق ويحترم الإرادات، ولا يُلحق ضرراً بالأطراف الشريكة.
الحوار الذي دعونا له هذه النخبة اللامعة من المفكرين والكوكبة المبدعة من المثقفين من شتى الدول العربية ومن الكورد، شملت كل الألوان والتيارات والاتجاهات، فبيننا الإسلامي والماركسي والليبرالي والقومي والديمقراطي والمؤمن بحقوق الكورد والمتحفظ عليها، والهدف: إدارة حوار معرفي علمي لمشكلة تواجه الوطن العربي ودول المنطقة، وكيفية التصدي من زاوية فكرية دستورية إنسانية.
ويستهدف الحوار كذلك البحث عن الحقيقة، وأعتقد أن المشروع النهضوي التحديثي التنموي المنشود لا يمكن أن يستقيم من دون الحوار والتعددية واحترام الرأي والرأي الآخر، وحل المسألة القومية، في ظل أجواء ديمقراطية فسيحة، وفي إطار احترام حقوق الإنسان الجماعية والفردية.
نريد حواراً بقلب حار وعقل بارد، حواراً بتأمل الباحث ودقته ومسؤوليته العلمية والأكاديمية، وبحرارة المناضل والوطني الشريف والقومي الغيور، والإنسان الأصيل والإسلامي المتنور، سنختلف بالتأكيد وتلك ظاهرة ليست سلبية، ولكن ما هو سلبي ألا نعرف كيف نتحاور وكيف نختلف، لنتعلم إذاً نحن المثقفين كيف نختلف وأين ومتى؟ ولنتعلم أيضاً كيف ننظم خلافنا ونوقر صراعنا، فإذا لم توحدنا الثقافة فماذا سيوحدنا؟
المشكلة الكوردية إحدى أركان مشكلة الحكم في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية، ويتوقف على حلها، إضافة إلى تحقيق المواطنة المتكافئة بإلغاء التمييز الواقعي على شرائح واسعة من السكّان، إرساء دعائم الحكم الديمقراطي المنشود على أسس من الشرعية الدستورية وبمجلس نيابي منتخب ونظام برلماني تعددي دستوري.
وإذا كان مثل هذا الحوار يجري بين النخب الفكرية والثقافية والسياسية، فلا بدّ له أن ينتقل إلى جميع القطاعات الشعبية، وأن يتم لاحقاً في الجامعات ومراكز العمل وفي النقابات والاتحادات، وعلى مستوى السلطة والمعارضة، ليتحوّل بالتالي إلى قوّة ضغط مستقبلية، ليس فقط للاحتجاج، بل لتقديم مشاريع قوانين ولوائح وأنظمة ومقترحات، وهذه القوّة إذا تعزّزت، وأخذت تمثّل رأياً عاماً، فإنها ستكون عاملاً أساسياً في الحل لتجنّب الصراعات العنفية، والتدابير العسكرية، واللجوء إلى الحوار السلمي المدني، بعيداً عن الاستعلاء والتمييز، وفي الوقت نفسه، بعيداً عن ضيق الأفق والانعزالية.
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، ونائب رئيس جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت