القاضي محمد.. قائد افتدى شعبَه بروحه
القاضي محمد.. قائد افتدى شعبَه بروحه
December 18, 2024

في عام 1910، وُلد طفل من عائلة قاضي المشهورة وذات السمعة الطيبة في مدينة سابلاغ «مهاباد الحالية»، وسُمّي محمد. أصبح محمد لاحقاً واحداً من أبرز الشخصيات في تاريخ كوردستان الحديث وأكثرها قرباً من قلب الناس. كان جميع أفراد قبيلته من علماء الدين الذين تولوا لفترة طويلة مسؤولية القضاء والتحكيم بين الناس، ولذلك أصبحت كلمة «قاضي» لقباً عائلياً لهم.

في عام 1830، جمع جد محمد الأكبر، أحمد قاضي المشهور بلقب «شيخ المشايخ»، زعماء القبائل والعشائر في المنطقة في مكان بالقرب من بلدة «ديواندره»، وطلب منهم أن يتحدوا ويصبحوا قوة واحدة لمواجهة الأجانب، وخاصّة المُعتدين الإنجليز، كما دعاهم إلى العمل على إحلال النظام والأمن في ديارهم والدفاع عن حقوق وكرامة الناس.

في عام 1916، لعب قاضي فتاح، ابن شيخ المشايخ، دوراً مهماً في الدفاع عن مدينة مهاباد ضدّ هجوم الروس والعثمانيين، إلى أن ضحى أخيراً بحياته واستشهد في العام نفسه.

عندما أصبح محمد قاضياً رسمياً بعد أن تدرّج في العلوم الدينية وبدأ بحلّ النزاعات، أظهر بوضوح حكمته وذكاءه، مما زاد من نفوذه الروحي وشعبيته مع مرور الوقت، وكان يمتلك بصيرة خاصة في القضايا، فلا يُصدر حكماً إلا بعد أن يدرس القضية بدقة متناهية، وكان ملماً بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، وكانت آراؤه دائما مدروسة وواعية.

اندلعت نيران الحرب العالمية الثانية، وامتدت تدريجياً إلى الشرق الأوسط. وفي منتصف عام 1941 احتُلت إيران من الشمال والجنوب من قبل القوات الروسية والبريطانية، وكان هدفُ البريطانيين هو السيطرة على الموارد النفطية في الجنوب والغرب على الأقلّ حتى نهاية الحرب، بينما كانت لدى الروس خطة طويلة المدى تتعلّق بالحصول على امتياز استخراج نفط الشمال، كما كانوا يسعون إلى نشر الشيوعية وتوسيع الاتحاد السوفييتي. إلى حدّ أنّ جعفر باقروف، السكرتير الأول للحزب الشيوعي في أذربيجان السوفييتية، تحدّث مراراً عن ضمّ أذربيجان الإيرانية، أو كما وصفها بـ«أذربيجان الجنوبية»، إلى الجزء الشمالي منها.

في ظلّ هذه الظروف، احتلت القوات الروسية جزءاً كبيراً من شمال كوردستان، وخرجت هذه المنطقة فعلياً عن سيطرة الجيش الإيراني، وكان سكان مدن كوردستان، وخاصة الأكبر سناً، يتذكرون جيداً مرارة وجود الروس خلال الحرب العالمية الأولى، وكذلك الأيام التي كانت فيها القبائل تهاجم المدن وتنهب ممتلكاتها مستغلة ضعف الحكومة.

في هذه الأثناء، كان القاضي محمد أكثر من شعرَ بالخطر والمسؤولية، ومن ناحية أخرى، كانت المشاعر القومية في أوجها، خاصة بين الشباب، نتيجة لسنوات من القمع والتمييز من قبل الحكومة المركزية. وإذا لم تُوجّه هذه المشاعر تحت قيادة عقلانية وقوية، فكانت ستصبح خطيرة ومسببة للمشاكل.

كلّ هذه العوامل كانت سبباً في دفعِ القاضي محمد، ذلك الرجل الهادئ والوقور، بشكل لا مفر منه، إلى قلب واحدة من أصعب وأشدّ الفترات تعقيداً في تاريخ إيران وكوردستان.

قام القاضي محمد بخطوة أدت إلى أن يبقى أمن الناس في تلك الأرض المضطربة محفوظاً أكثر من أي مكان آخر، رغم كل الفوضى. استغلّ علاقاته السابقة وصداقاته مع بعض زعماء العشائر القوية، ووكل إليهم حماية مدينتي مهاباد وبوكان والقرى المحيطة بهما. وبهذا الشكل، حوّل القوات التي كانت تُعد أكبر تهديد لأمن الناس إلى حماة فعليين لهؤلاء الناس من خلال منحهم المكانة والمسؤولية.

ومن الأحداث المهمة في تلك السنوات تأسيس «جمعية حياة كُردستان» في عام 1942، التي كان الأعضاء المؤسّسون لها في الغالب من الشباب القوميين الكورد الذين، مع تمسّكهم بمعتقداتهم الدينية وتبنّيهم لشعائر الإسلام، سعَوا إلى تحقيق العدالة ورفع الظلم عن الشعب الكوردي.

على الرغم من أن القاضي محمد لم ينضم أبداً إلى عضوية هذه الجمعية، إلا أنه كان دائماً يؤيدها ويدعمها؛ وذلك لأنّه كان يرى أنّ من نقاط قوتها هي توجيه وتوحيد القوى التي لو بقيت متفرّقة، لكان من المُحتمل أن تظهر منها حركات قومية فردية وغالبا متطرفة، وعملياً، حدث هذا بالفعل، وتمكّن القاضي من الإشراف وتوجيه هذه الجمعية النشيطة بشكل جيد. كان نمو وتطور الجمعية لافتاً، حتى أنّه بحلول عام 1945 كان معظم رؤساء القبائل والعشائر، وكذلك غالبية الشعب، قد انضموا إليها.

ومن الأحداث المهمة الأخرى في تلك السنوات هو دخول مجموعة من حوالي عشرة آلاف كوردي من البارزانيين إلى الأراضي الإيرانية. وكانت قيادة هذه المجموعة فعلياً في يد المُلا مصطفى البارزاني، ووافق على أن يبقى هو وقواته تحت خدمة حركة مهاباد وتحت قيادة القاضي محمد طالما ارتأى القاضي ذلك.

كانت سياسة الروس تجاه إيران آنذاك مزدوجة الأوجه؛ فمن ناحية كان مولوتوف، وزير الخارجية آنذاك، وسادشيكوف، السفير السوفييتي في إيران، يسعيان للحصول على امتيازات استخراج واستغلال نفط شمال إيران. ومن ناحية أخرى، كان «بيريا»، اليد اليمنى لستالين، و«باقروف»، يخطّطان لضم أجزاء من أراضي إيران إلى الاتحاد السوفييتي، ونشر وتوسيع الشيوعية.

كان الروس في الحقيقة لا يرون كوردستان سوى امتداد لأذربيجان، ولم يعتبروا الأرض والشعب الكورديين سوى سلعة. مع ذلك، ولسوء الحظ، لم يُدرك القاضي ومن حوله هذه الحقيقة إلا بعد فوات الأوان.

ومن نتائج زيارة القاضي محمد إلى باكو كان تأسيس «الحزب الديمقراطي الكوردستاني» بناءً على اقتراح من باقروف، ودمج جمعية «حياة كوردستان» فيه، وبعد سلسلة من الإجراءات السياسية وإرسال ممثلين إلى تبريز للتفاوض مع الخبراء الروس، أعلن القاضي محمد صباح يوم 22 كانون الثاني / يناير 1946 في ميدان «چوارچرا» في مهاباد أمام حشد كبير من الناس عن تأسيس «جمهورية كوردستان المستقلة».

وفي مهاباد، لم يظهر أي أثر لتوجه الحكومة نحو الشيوعية. وكانت ملكية الأفراد لممتلكاتهم وأراضيهم محترمة، وكان احترام الشعائر الإسلامية من الأولويات التي كان القاضي محمد وأعوانه يحرصون عليها. وكان القاضي محمد يرتدي عمامته البيضاء غالباً، وحتى في يوم إعلان الجمهورية المستقلة، لم ينزعها رغم ارتدائه الملابس العسكرية.

لم تدُم جمهورية كوردستان طويلاً، إذ كانت التوازنات السياسية والاقتصادية تتجه نحو استعادة الاستقرار والنفوذ لحكومة شاه إيران، التي استطاعت قمع الحركات التحرّرية والمُناهضة للاستعمار. 

زيارة قوام السلطنة، رئيس وزراء إيران، إلى الاتحاد السوفييتي وتوقيع الاتفاقية الثلاثية مع وزير الخارجية السوفييتي مهّدت لخروج الجيش الأحمر من شمال غرب إيران. وبعد عامٍ ونيّف، أمرت موسكو الجيش الأحمر بإخلاء الأراضي المحتلة بسرعة، مما أدى إلى إعادة كوردستان إلى حكم شاه إيران.

بقي قاضي محمد في مهاباد وبذل قُصارى جهده حتى يتمكن الجيش من السيطرة على الوضع قبل أن تتحوّل الاضطرابات الداخلية الناتجة عن إحباط بعض العشائر إلى تهديد جدّي.

وقبل أن يفرّ جعفر پيشَوَري، قائد حزب الديمقراطيين الأذربيجانيين إلى الاتحاد السوفييتي، اتصل بقاضي محمد وأطلعه على قراره، واقترح پيشَوَري على قاضي محمد أن يبتعد عن المنطقة بأسرع ما يمكن، لكن قاضي محمد رفض هذا الاقتراح بحزم وأجاب: «سأبقى بين شعبي في مهاباد»، وبدعوة من المسؤولين في الحزب الديمقراطي، اجتمع عدد من القادة للتشاور حول كيفية خروجهم. 

بعد الاتفاق على أنّه لم يعد هناك مكان للبقاء، اجتمعوا في منزل قاضي محمد في مساء يوم 14 كانون الأول وطلبوا منه بإصرار أن يُرافقهم، لكنه قال: «لن أذهب معكم ولن أترك الناس وحدهم. ستعود الحكومة المركزية بغضب وحقد، وإذا لم تجدني، ستصبّ غضبها على الناس؛ بينما في وجودي، لن تفعل شيئا ضدّ الناس».

بعد يومين توجه قاضي محمد مع مجموعة من الشخصيات الكوردية البارزة إلى مياندوآب حيث التقى باللواء همایونی، وسلم نفسه له فعلياً؛ لكنه في الوقت نفسه حذّر من أنّ البارزانيين ما زالوا في مهاباد وفي مناطق أخرى، وأنّ الجيش إذا كان لديه نية سيئة وقرّر الإضرار بالناس، فسيدفع ثمناً باهظاً.

بناءً على توصية همایونی، عاد قاضي محمد إلى مهاباد لترتيب الدخول المناسب للجيش إلى المدينة. ومن جهة أخرى، كان العقيد غفاري يتحرّك مع ضابط صف من بوكان نحو مهاباد؛ وقد انضمّ إليه على الطريق العديد من العشائر المحيطة، وأصبحوا يقتربون من المدينة في كل لحظة. 

أرسل قاضي محمد على الفور ممثلاً إلى غفاري وأبلغه بأنّه وفقاً للاتفاق مع اللواء همایونی، يجب أن تدخل القوات العسكرية أولاً إلى المدينة وتُسيطر على الأوضاع، وأنّ العشائر حتى ذلك الحين ليس لها الحق في دخول المدينة، وأضاف أن البارزانيين لا يزالون هنا وهم مستعدون للردّ على أيّ شكل من أشكال الفوضى.

على هذا النحو، أبقى العقيد غفاري قواته تحت قيادته في جنوب مدينة مهاباد حتى اقترب اللواء همایونی بقواته من الشمال الشرقي للمدينة. في هذه اللحظة، وصل الملا مصطفى البارزاني بسرعة إلى مهاباد والتقى بقاضي محمد، وطلب منه أن يوافق على أن يُنقذه من المأزق، وضمان أنه سيقوم شخصياً بنقله إلى الحدود العراقية، لكن بعد مناقشات طويلة، أجاب قاضي محمد بنفس الثبات الذي عهد به، ورفض التفكير في إنقاذ نفسه. 

تتجلّى قيمة الإجراءات الأخيرة التي اتخذها قاضي محمد بشكل أوضح عندما نلقي نظرة على أوضاع أذربيجان وخصوصاً مدينة تبريز في نفس الفترة، ونُدرك كيف كانت تصرّفات الجيش في تلك المنطقة مع السكان.

بالمقابل، فإنّ قاضي محمد من خلال بقائه لم يقدّم للجيش مُبرّراً لهذه التجاوزات والاعتداءات. ومن ناحية أخرى، بسبب حكمته الخاصة وبمُساعدة البارزانيين، حافظ على حالةٍ من الخوف والأمل لدى اللواء همایوني حتى اللحظة الأخيرة، وجعلهم يتجنّبون توجيه الإهانة إليه وإلى الشعب، حتى بعد دخول الجيش إلى مدينة مهاباد وتغيّر الوضع، استمر قاضي محمد في البقاء في مكتبه.

في أواسط شهر كانون الثاني من عام 1947، بدأت مُحاكمة قاضي محمد وابن عمه محمد حسين سيف قاضي في محكمة عسكرية، وبناءً على طلب المدعي العام، العقيد فيوضي، تم استدعاء أخ قاضي محمد، أبو القاسم صدر قاضي - الذي كان مشغولاً بالتفاوض مع قِوام في طهران - إلى مهاباد. استمرت المحكمة في إجراءاتها لمحاكمة الثلاثة معاً.

أصدرت المحكمة في 22 كانون الثاني 1947 حكماً بالإعدام على الثلاثة، ثم انتهت المحاكمة، لكن تم نقل جميع الملّفات إلى طهران لإعادة النظر وإصدار الحكم النهائي.

كان دفاع قاضي محمد يعكس إيمانه الثابت وشجاعته لدرجة أنّ الضباط المكلفين بمحاكمته تأثروا به. أولاً، أشار إلى عدم صلاحية المحكمة، ثم أوضح أنّه رغم توفر العديد من الفرص له للهرب، ومع علمه بأنّه إذا بقي فسوف يُعدم، فإنّه اختار البقاء، موضّحاً أن الموت ليس شيئاً يُخيفه.

تمت المحاكمات وأبلغت المحكمة الصورية نتائج عملها إلى طهران، وبعد خمس عشرة ساعة، صدر أمرٌ من المركز بتنفيذ حكم الإعدام على الفور. 

وفي الساعات الأولى من صباح 31 آذار 1947، تم إبلاغ قاضي محمد بالحكم الصادر ضده. فكتب بتأمل ووقار بضع جُمل كوصية، طلب فيها من ورثته بناء مدرسة من أمواله، ودعا الناس إلى الوحدة والتضامن، ثم طلب أن يُسمح له بالوضوء وأداء الصلاة، وبعد ذلك، ومع مرافقة ضابطين له، توجّه بهدوء وثقة إلى مكان تنفيذ حكم الإعدام.

في فجر ذلك اليوم، عندما استيقظ الناس، وجدوا ساحة «چوارچرا» وفيها ثلاث جثث مُعلّقة على أعواد المشانق.

من كتاب تاريخ مشاهير الكُرد
تأليف بابا مردوخ روحاني
ترجمها عن الفارسية: عباس علي موسى
كاتب ومترجم متخصص في القصة القصيرة والأبحاث الأدبية، ترجم عن الفارسية والكوردية، لديه عدة مؤلفات مطبوعة

 عباس موسى

كاتب ومترجم، متخصص في الترجمات عن الكوردية والفارسية، له عدة مؤلفات مطبوعة








X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved