منذ نعومة أظفاره، تربّى دارا عطار في بيئة سياسية، حيث كانت له فرصة مجالسة كبار السياسيين، مما نمّى بداخله حب السياسة وشغفه بها. بفضل العلاقة الوثيقة بين عائلته وعائلة الشيخ محمود الحفيد، تمكن من الاقتراب من دوائر صنع القرار، وأصبح مطلعاً على ما يدور في مدينته السليمانية، المعروفة بنضال شعبها.
كان لنا لقاء مع السياسي الكوردي والقانوني ورجل الأعمال دارا عطار في منزله بأربيل، حيث وجدناه، رغم تقدمه في السن، حافلاً بذاكرة ثرية مليئة بالتجارب والأحداث. فحدثنا عطار، في هذا اللقاء، عن طفولته السياسية في السليمانية، ورحلته النضالية، وأدواره المحورية بين صفوف القيادة الكوردية في العراق والسعودية، وعلاقاته بشخصيات تاريخية بارزة.
بداية سألنا عطار عن نشأته لكي يحدثنا قليلاً عنها وعن تأثيرها على مسيرته، فأجاب بأنه ولد في بيئة سياسية، و«كانت عائلتنا على علاقة وثيقة مع عائلة الشيخ محمود الحفيد، كون عقيلته عمتي (شقيقة والدي)، وهو ما أتاح لي الاقتراب من كبار السياسيين منذ نعومة أظفاري». وأضاف بأن والده كان ملمّاً بعدة لغات، منها الكوردية، والعربية، والفارسية، والتركية، و«كان شغوفاً بالسياسة والشعر ويتابع الصحف، حتى في وقت كان من الصعوبة بمكان وصول الصحف إلى أيدي القراء». وأكد أنه في ظل هذه الأجواء الغنية بالثقافة والسياسة، تعلم الكثير من والده الذي عيّنه الشيخ الحفيد مستشاراً له وكان يستشيره في أمور عديدة. و«عشت طفولتي وسط هذه الأجواء، حيث شهدت تلك المرحلة نهاية الحرب العالمية الثانية وصعود الحركات التحررية، مما منحني رؤية عميقة للأحداث المحلية والدولية».
وارتبط عطار بالقضية الكوردية مبكراً... فأحببنا أن نعرف أبرز ملامح نشاطه السياسي في تلك الفترة. فقال: «بالفعل، التحقت باتحاد طلبة كوردستان، التابع للحزب الديمقراطي الكوردستاني الذي ناضل لتحرير كوردستان وتأسس منتصف الأربعينات. ولاحقاً، سافرت إلى أوروبا لإكمال دراستي، وظللت أعمل ممثلاً للزعيم الكوردي الملا مصطفى البارزاني، وعملت على نقل قضية شعبي إلى الساحة الدولية». فأسس هناك مع آخرين «جمعية الطلبة الكورد في أوروبا»، وأصبح رئيساً لتحرير مجلة «كوردستان»، في محاولة منه ليكون حلقة وصل بين الجالية الكوردية وأرض الوطن.
وهناك كتاب مهم جداً أعده الصحفي الشاب سعيد عبد الله عن حياة دارا عطار تحت عنوان «له هەگبەی رێبوارێكی تینوودا... بیرەوەری و بۆچوون» (في جعبة مسافر ظمآن... ذكريات وآراء) وهو جزء مهم من توثيق حياته ونشاطه في النضال الكوردي. فلما سألناه عن أهمية هذا الكتاب، قال عطار: «هذا الكتاب يعكس مشاعر مختلطة من الحنين والألم، ويعبر عن محطات من حياتي مليئة بالنضال. قضيت فترات طويلة متنقلاً بين أوروبا وكوردستان، وكانت رحلاتي لا تخلو من زيارة القيادة الكوردية بزعامة الملا مصطفى البارزاني، وقد كنت شاهداً على أحداث سياسية عديدة، مثل (اتفاقية 11 آذار) التي منحت الكورد حكماً ذاتياً في العراق، وهو الحكم الذي شكل أساساً لفيدرالية كوردستان العراق اليوم. لم تكن زياراتي مقتصرة على ذلك، بل كنت أرسل وفوداً صحفية ليشاهدوا بأنفسهم نضال البيشمرگة في الجبال، وينقلوا للعالم معاناة الشعب الكوردي في سعيه لنيل حقوقه).
ونظراً لخبرته الكثيرة وتجاربه الغنية في خارج كوردستان، ارتأينا أن نسأل عطار عن رأيه في تطورات القضية الكوردية خلال السنوات الأخيرة، خاصة في ظل الوضع الإقليمي الحالي، أجابنا بأن القضية الكوردية لم تُطرح في المحافل الدولية بشكل كافٍ حتى اليوم. فما زالت الدول تتهرب من التطرق إليها بشكل صريح وواضح. أما في الوقت الحالي، فيمكن القول إن هناك بوادر إيجابية؛ فالعالم بدأ ينظر إلى القضية الكوردية بتدقيق أكبر. والبعض يدرك طموحات الشعب الكوردي نحو الاستقلال، بينما الدول التي تحكم الكورد تبذل جهوداً كبيرة للحفاظ على سيطرتها علينا.
وأضاف عطار بذكر موقف قال إنه لن ينساه حصل معه في لندن مع شخصية شيوعية عراقية معروفة حينها، اسمه خالد أحمد زكي، قُتل في ثورة الأهوار عام 1966. «سألته ذات مرة: ماذا تعمل في لندن؟ فأجاب بأنه يعمل لدى برتراند راسل، الفيلسوف البريطاني الشهير، كمتبرع لأنه يريد الاطلاع على القضايا العراقية. فطلبت منه أن يأخذني معه إليه بغرض التعارف، فاستجاب لطلبي. وعندما قدمني إلى راسل، عرفني به كـ(صديق عراقي آخر). فقلت له مبتسماً: (هو صادق في ذلك، لكنني كوردي قبل أن أكون عراقياً). تعجب راسل من صراحتي، وتحدثت معه طويلاً عن القضية الكوردية، فقال بدوره: (من المعيب على العالم المتحضر أن يشاهد ما يحصل للكورد ويبقى صامتاً). وأوضح أن الأمم المتحدة لا تستطيع التدخل في شؤون القوميات؛ لأنها تهتم بشؤون الدول فقط). كان هذا كلاماً مهماً من شخص مثل برتراند راسل».
وعن تقييمه للجهود التي بذلتها الجالية الكوردية في أوروبا آنذاك، سألنا عطار فأجاب بأنها «كانت جسراً أساسياً لعرض قضيتنا على العالم. لم يكن هناك دعم حقيقي لنا حينها، باستثناء (جمعية الطلبة الكورد)، وكانت الحكومات الأوروبية تدعم في الأساس الحكومات الرسمية. انضممت إلى اتحاد الطلبة الكورد قبل سفري إلى أوروبا، وكنت أحرص على إبراز معاناة شعبي. لم أقم بذلك لأنني سياسي فقط، بل لأنني أحمل ولاءً مطلقاً لقضيتي، ولعل قربنا من الشيخ محمود الحفيد، زاد من إصراري على العمل لبلدي».
إحدى المحطات المهمة في حياة دارا عطار هي تجربته في العمل مع العائلة المالكة في السعودية، فطلبنا منه أن يصف لنا هذه التجربة ويتحدث عن التحديات التي واجهته فيها. فقال إن هذه الفرصة أيضاً جاءت «بفضل علاقاتي العائلية. فعم زوجتي، محمود بابان، كان وزيراً في العهد الملكي، وبعدها توجه إلى الأردن وكان يعمل عند الملك عبد الله في الأردن، واقترح عليّ العمل في السعودية بفضل إجادتي للغات، فوافقت على ذلك». ثم يسترسل عطار أكثر عن تجربته تلك، فيقول: «في أولى لقاءاتي مع الملك سلمان، الذي كان أميراً للرياض حينها، استفسر مني عن تناقض ممكن بين عملي في السعودية وانتمائي للحركة الكوردية. وقال إنهم عندما يعينون شخصاً جديداً لديهم يطلبون منه أداء اليمين القانونية. لكنه استدرك قائلاً: لكنني لا أطلب منك ذلك. ولكن اسألك سؤالاً واحداً، لأنني سمعت بأنك تعمل مع الحركة التحررية الكوردية، فكيف ستعمل في وقت واحد معنا ومع الحركة الكوردية؟ أعتقد أنه سيكون هناك تناقض. فأكدت له أنني أستطيع التوفيق بين الأمرين من دون تعارض. وكانت السعودية طوال إقامتي فيها تعاملني بثقة كبيرة، وكان لدى السعوديين صفات جميلة؛ فهم أمناء ويثقون في الكورد».
هنا يتبادر إلى الأذهان سؤال يفرض نفسه وهو: هل استغل دارا عطار وجوده في السعودية وتمكن من إيصال حقيقة أن القضية الكوردية قضية عادلة إلى العائلة المالكة السعودية؟ يرد عطار على السؤال، بقوله: «إلى حد كبير: نعم، تمكنت من ذلك. فهم كانوا غير مطلعين بتاتاً على القضية الكوردية. وكان أغلبهم يستعملون تعبير (العصيان الكوردي). فقلت لهم ذات مرة إن هذا التعبير خاطئ جداً، لأن الكورد قومية مثل باقي قوميات العالم، كالعرب والفرس ولديهم قضية وطنية. وحين يحاربُنا الآخرون لا نقول إن المحاربة جاءت من الإسلام، بل من بريطانيا والدول الغربية. وهم أيضا يعادونكم ولكنهم لا يقدرون عليكم لأن لديكم دول وحكومات، لكنهم يقدرون علينا ويحاربوننا».
وعما إذا كان هناك موقف طريف ومميز أثناء وجوده وعمله مع العائلة المالكة السعودية سألنا عطار فحكى لنا أن «أحد المواقف التي لا أنساها، هو عندما سلمني الملك سلمان، حين كان أميراً للرياض، مبلغ مليوني دولار لدعم أولاده الأربعة في أمريكا، وطلب مني التصرف فيه حسب حاجتهم. بعد توزيع المبلغ، تبقى لدي مائة ألف دولار، فأخذته مع إيصالات الصرف وسلمته إلى الملك سلمان. فنظر إليّ وقال: كاك دارا، أنت لا تعرف عاداتنا وتقاليدنا، فنحن إذا تحققنا من المحاسب، فذلك يعني أنه عليه أن يغادر العمل في اليوم التالي، لكن ثقتنا بك باقية، و سنثق بك دائماً». ثم مزق الأوراق أمامي، وطلب مني صرف المبلغ المتبقي في أوجه محددة.
«هل كانت هناك تطلعات لزيارات متبادلة وتطوير العلاقات بين القيادة الكوردية والقيادة السعودية؟» وجهنا هذا السؤال لدارا عطار فأجاب بأن «العلاقات بين الشعبين يمكن تطويرها. ورغم وعد الملك سلمان بزيارة كوردستان، إلا أن الظروف لم تسمح بذلك. وبعد وفاة الملك عبد الله، تركت العمل في السعودية بعد أن عشت فيها لمدة أحد عشر عاماً، وعندما أخبرت الملك سلمان بأنني سأعود إلى كوردستان، رد مستغرباً: «أأنت مجنون؟ تترك السعودية لأجل كوردستان؟» فقلت له: أمضيت سنوات طويلة في السعودية، وحان الآن وقت العودة، فكوردستان وطني، وقررت العودة لأن أهلي هناك.
ختاماً، يظل دارا عطار شخصية تاريخية ونضالية حافلة بالتجارب، إذ لم تتوقف مسيرته عند حدود السياسة الكوردية، بل امتدت لتشمل قضايا دولية وعلاقات وثيقة مع شخصيات قيادية، مما جعله شاهداً على عقود من التحولات السياسية والنضالية.
عبد الحميد زيباري
كاتب وصحفي