تُعرف كوردستان تاريخياً بـ«بلاد الشمس والنار»، وهي أرض عريقة احتضنت تنوعاً فريداً من المكونات والطوائف. وفي قلب هذا الفسيفساء الثقافي، تبرز الطائفة الصابئية المندائية كإحدى أقدم الديانات في العراق. ورغم التحديات التي واجهتها بعد 2003، وجدت في كوردستان واحة للتعايش السلمي.
في أرض كوردستان، حيث تتجلى صور التعايش السلمي بأبهى معانيها، يواصل أتباع إحدى أقدم الديانات التوحيدية ممارسة طقوسهم بحرية تامة. فمنذ عام 2006، اتخذ الصابئة المندائيون من هذا الإقليم ملاذاً آمناً، بعدما أجبرتهم الظروف على ترك مناطقهم الأصلية في جنوب العراق.
تحول تاريخي وهجرة عكسية
شكل عام 2003 منعطفاً حاسماً في تاريخ الصابئة المندائيين. فبعد سقوط نظام صدام حسين، واجه الآلاف منهم تهديدات وضغوطاً في مناطقهم التقليدية بمحافظات ميسان وذي قار والبصرة، مما أجبرهم على الهجرة. وبينما توجه البعض نحو خارج العراق، اختار آخرون الاستقرار في إقليم كوردستان، وخاصة في أربيل.
حافظ ناظم، رئيس مجلس شؤون الصابئة المندائيين في أربيل، أكد في حديثه لـ«كوردستان بالعربي»، أن هجرة المندائيين إلى كوردستان والإقامة الدائمة فيها بدأت منذ عام 2006، وعزا سبب اختيار كوردستان إلى حقيقة تاريخية مهمة وهي أن «المئات من أبناء الطائفة شاركوا في نضال الشعب الكوردي ضد الظلم والطغيان، ولدينا عشرة شهداء قضوا نحبهم في جبال ووديان كوردستان دفاعاً عن الحرية»، إضافة إلى «الأمان والاستقرار اللذين ينعم بهما إقليم كوردستان».
بل ومن الظواهر اللافتة ما يصفه ناظم بـ«الهجرة العكسية لأبناء الطائفة من المنفى إلى كوردستان، وهذا لم يكن مألوفاً في السابق». ويضيف: «الكثير من أبناء الطائفة فضلوا السكن في كوردستان بدلاً من البلدان الأوروبية وأمريكا».
أرقام وإحصائيات
تشير الإحصاءات الرسمية إلى وجود نحو 1000 شخص من الصابئة المندائيين في إقليم كوردستان، يقطن أغلبهم في محافظة أربيل، حيث يضم قضاء عنكاوا وحده 800 مندائي. وحسب إحصاءات جمعية الثقافة للصابئة المندائية في أربيل، تعيش 245 عائلة في المدينة، يعمل معظم أفرادها في صياغة الذهب، إلى جانب مهن أخرى كالتدريس والوظائف الحكومية.
وفي مقارنة تاريخية ديموغرافية، كان عدد أبناء الطائفة في العراق يتجاوز 60 ألف شخص قبل عام 2003، موزعين في محافظات ميسان وبغداد والبصرة وذي قار. لكن المصادر تؤكد أن نحو 50 ألفاً منهم غادروا العراق، ويتراوح عدد المتبقين بين 10 آلاف و15 ألف شخص.
دعم حكومي وتحديات مستقبلية
قدمت حكومة إقليم كوردستان تسهيلات عديدة للطائفة، منها توفير معبد (المندي)، وإنشاء جمعية ثقافية للحفاظ على إرثهم الحضاري، وتخصيص موقع ذي مياه جارية في قضاء شقلاوة لإحياء طقوس التعميد، ويؤكد حافظ ناظم أهميته للطائفة بقوله: «إنه من أساسيات ديانتنا التوحيدية، فهو طهارة روحية ورمزية»، وسبب اختيار المياه الجارية لأداء طقوسهم، كما يقول ناظم، هو أن «نقائها يطهر الإنسان من ذنوبه». كما منحتهم الحكومة أيضاً، بموجب قانون حماية حقوق المكونات في كوردستان رقم (5) لسنة 2015، مقعداً في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية.
أما إحسان جوبان، ممثل الطائفة في الوزارة، فيؤكد أن «إقليم كوردستان يعد أبناء جميع القوميات والأديان والمذاهب سواسية، ولا يجري التعامل معهم على أساس أنهم غرباء». ويشير إلى «وجود روح الأخوة والترابط الاجتماعي بين المواطنين الناتجة عن المعرفة بالحقوق والواجبات».
لكن جوبان يشير إلى تحديين رئيسيين: الحاجة إلى «تخصيص قطعة أرض لبناء معبد (مندي) بمساحة أوسع»، نظراً لضيق المساحة الحالية مع تزايد أعداد المندائيين، وضرورة تعيين رجل دين صابئي لأداء الشعائر المقدسة والطقوس الدينية وتوفير مسكن له.
وبينما يفخر ناظم بعدم تسجيل أي انتهاك ضد أبناء الطائفة طيلة العشرين عاماً الماضية، يؤكد أن نقل الصورة الحقيقية عن كوردستان كبلد للتعايش السلمي والاحترام ساعد في زيادة توافد المندائيين، حتى باتوا يعتبرون هذه الأرض وطنهم الأم، لأنها حافظت على حقوقهم وصانت كرامتهم.
من أعماق اللغة: سر التسمية وجوهر العقيدة
تحمل التسمية قصة عميقة في جذورها اللغوية، وكلمة «صابئة» مشتقة من جذرين آراميين: «صبا» التي تعني «اصطبغ» أو «غطس في الماء»، و«مندا» بمعنى «الصابغين» أو «العارفين». وبذلك يصبح المعنى الكامل للصابئة المندائية هو «الصابغين العارفين بدين الحق».
ألفا عام من الإيمان... أصول العقيدة وأركانها
تمتد جذور المندائية، وهي إحدى أقدم الديانات الإبراهيمية التوحيدية الشرقية، لأكثر من ألفي عام. وبينما ينتشر أتباعها في العراق وإيران وفلسطين ودول أخرى، يظل جنوب العراق موطنهم الرئيس، حيث تتواجد رئاسة الطائفة المعروفة بـ «رئيس أمة - ريش أمة».
وتقوم العقيدة على أركان أساسية: التوحيد، والصباغة في المياه الجارية، والصلاة، والصوم، والزكاة، والصدقة. ويؤمن المندائيون بالله الواحد الأحد، و بأنبيائه ورسله وكتبه وملائكته، واليوم الآخر. ومن الأنبياء الذين يتبعونهم: آدم، وشيث ابن آدم، وأنوش ابن شيث، ونوح وابنه سام، وإبراهيم، وإدريس، وزكريا، ويحيى ابن زكريا. ولديهم «اللون الأبيض رمز السلام والنقاء والطهارة، وهو من جوهر معتقداتنا»، كما يقول حافظ ناظم.
الماء رمز الحياة والتطهير
يحتل الماء مكانة خاصة في الديانة المندائية، فهو أساس الحياة وعنصرها الرئيس. ولهذا السبب، اختار أفراد الطائفة السكن قرب الأهوار وضفاف الأنهار، خاصة في محافظة ميسان جنوبي العراق. ويعتبر التعميد في المياه الجارية طقساً أساسياً، حيث يمثل الغطس في الماء كفارة للذنوب وولادة جديدة للإنسان.
«كنزا ربا» الإرث المقدس بين الماضي والحاضر
تمتلك الطائفة مجموعة من الكتب المقدسة، يتصدرها «مصحف الكنز العظيم» (گـِنزَا رَبا) وكتاب «إدراشا إد يهيا» الذي يحوي تعاليم النبي يحيى. ويتألف گـِنزَا رَبا، الذي يُعتقد أنه كُتب بين القرنين الأول والثالث الميلادي، من جزأين: الأيمن يضم 18 مقطعاً عن اللاهوت والخلق، والأيسر يتناول مصير الروح بعد الموت. ونظراً لعدم إلمام الكثيرين باللغة المندائية القديمة، تمت ترجمة الكتاب إلى العربية.
لغة عريقة في مواجهة الزوال
يواجه المندائيون تحديات وجودية خطيرة، أبرزها خطر الذوبان في المجتمعات الغربية بسبب الهجرة، ونقص الجهود التبشيرية. ويؤكد إحسان جوبان أن المندائيين، رغم كونهم من أقدم شعوب العراق، يواجهون خطر الاندثار. واللغة المندائية التي يُعتقد أن النبي آدم كان أول من تحدث بها، والنبي إدريس أول من خط حروفها، مما يجعلها من أقدم لغات العالم، تشهد تراجعاً حاداً، إذ لا يتجاوز عدد المتحدثين بها حالياً 500 شخص.
هيمن بابان رحيم
صحفي كوردي عمل في العديد من المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية