حلبجة .. مدينة التاريخ والصمود
حلبجة .. مدينة التاريخ والصمود
December 27, 2024

تتمتع حلبجة، إحدى أقدم المدن وأكثرها جمالاً في إقليم كوردستان، بتاريخ غني يمتد لأكثر من 500 عام. وتعود أصول المدينة إلى مستوطنين من القرى النائية في منطقة هَورامان وكوردستان الشرقية (شمال غرب إيران) على نطاق أوسع. على مدى القرون، انخرط سكان حلبجة في الزراعة والبستنة وتربية المواشي، بينما كانت التجارة تلعب دوراً أقل أهمية، خاصة على طول الطرق الرئيسية التي تربط الشمال بالجنوب، والتي تربط عشرات المدن والمناطق، مما جعل حلبجة محوراً حيوياً للمسافرين.

 

الأهمية التاريخية والنمو

تقع حلبجة جغرافياً بين منطقة هورامان ومنطقة شهرزور التاريخية، وقد بدأ تطورها في عهد الإمبراطورية العثمانية، وخاصة بعد معركة تشالديران عام 1514. ولم يتمركز الجيش العثماني في المدينة إلا مؤقتاً، مما يمثل بداية تحول حلبجة إلى مركز حيوي للزراعة والبستنة. وقد أدى تدفق الناس من القرى والمدن البعيدة إلى ازدياد نموها، الأمر الذي كان سبباً في تحولها إلى مستوطنة خصبة ومزدهرة.

ومع مرور الوقت، أصبحت حلبجة بوتقةً تنصهر فيها الثقافات والطبقات الاجتماعية. واستقر البدو من هَورامان، والأرستقراطيون من قلعة جوانرو، والعائلات المؤثرة من الإمبراطورية العثمانية في المدينة، مما جعلهم يفرضون سيطرتهم على أراضيها ومواردها المائية وحدودها. وجعلت تربة المدينة الخصبة ومناخها الملائم ومصادر المياه الوفيرة منها موقعاً مثالياً للاستيطان والإنتاج الزراعي.

 

المركز الثقافي والفكري

لقد جذب الموقع الاستراتيجي لحلبجة وطرق التجارة المزدهرة العديد من العلماء والشعراء والمثقفين. وعلى مر التاريخ، أنجبت المدينة شخصيات بارزة مثل صَيدي هَورامي من منطقة تَويلة (شاعر كوردي، 1189 – 1271)، ونالي في شهرزور (شاعر كوردي، 1800 - 1856)، ومولوي توكوزي (شاعر كوردي، 1806 - 1882)، وأحمد مختار الجاف (شاعر وسياسي كوردي، 1898 - 1935)، وغيرهم. وأصبحت عائلات العلماء، بمن فيهم عائلات الشيخ عثماني سراج الدين (صوفي كوردي وعالم، 1781 - 1867)، والشيخ بابا رسول، وعبد العزيز بريس، بمثابةِ حجر الأساس للتعليم للأجيال القادمة في حلبجة.

كما رعت المدينة تراثاً ثقافياً غنياً، إذ ساهمت العديد من العائلات في المشهد الفكري والتعليمي. واستقرت القبائل النبيلة من المناطق المحيطة في حلبجة، مما أضاف إلى نسيجها الثقافي المتنوع. وبالتالي، أصبحت حلبجة نموذجاً للتعايش، فقد عاشت فيها الديانات والأعراق والجنسيات المختلفة في وئام. وعلى الرغم من أن غالبية سكانها من المسلمين، إلا أن المدينة احتضنت الكاكائيين (أتباع اليارسانية) واليهود، الذين اعتبروا حلبجة موطناً لهم جميعاً.

 

إرث المقاومة والصمود

وعلى مدار تاريخها، كانت حلبجة معقلاً للمقاومة ضد الظلم. ولعبت دوراً محورياً في الثورات الكوردية، وكانت بمثابة منارة للوعي الفكري والسياسي. وكانت المدينة مهداً لمختلف الأيديولوجيات والحركات السياسية، وكان أهلها في طليعة النضال من أجل الحرية وحماية الأرض. وأصبح مقاتلو البيشمركة والقادة السياسيون في المدينة رموزاً للمقاومة والفخر الكوردي.

ويتجلى تحدي حلبجة للقهر في مقاومتها للاحتلالات المختلفة والأنظمة القمعية، بما في ذلك الدولة العراقية. وقد تحملت المدينة العديد من الهجمات والترحيل والإبادة الجماعية، وأبرزها خلال قصف عام 1974 والنزوح اللاحق لشعبها إلى إيران. وعلى الرغم من هذه المصاعب، ظلت روح المدينة غير منكسرة.

 

مأساة 1988 والاعتراف الدولي

بدأت أكثر فصول حلبجة مأساوية في 16 مارس 1988، عندما شن النظام العراقي بقيادة صدام حسين هجوماً كيميائياً أودى بحياة أكثر من 5000 شخص، بما في ذلك النساء والأطفال وكبار السن. وأصيب أكثر من 10 آلاف شخص آخرين أو نزحوا إلى إيران هرباً من الدمار. وعزز هذا الحدث المروع مكانة حلبجة في التاريخ كرمز للمعاناة والصمود الكورديين.

وفي أعقاب الانتفاضة الكوردية عام 1991 ضد الحكومة العراقية، لعبت حلبجة دوراً حاسماً في سقوط نظام البعث. فقد دعمت المدينة إنشاء حكومة إقليم كوردستان، وساهمت بممثلين لكل من الحكومة والبرلمان. ومع تحرير كوردستان والعراق من قبل القوات المتحالفة وإنشاء مناطق حظر الطيران، بدأت حلبجة في إعادة البناء واستعادة مجدها السابق.

 

التجديد والتقدم

في السنوات التي أعقبت التحرير، شهدت حلبجة نمواً وتطوراً ملحوظين. وبرزت المدينة كمركز للزراعة والبستنة والثروة الحيوانية والثقافة والسياحة. وأصبحت مركزاً مزدهراً واستراتيجياً مع مكتب المحافظ والإدارة المركزية والعديد من المؤسسات المدنية والثقافية والسياسية.

لا شك أن النساء لعبنَ دوراً بارزاً في إحياء حلبجة، إذ شغلن مناصب حكومية رئيسية وساهمن في إدارة المدينة. ويُعتبرُ تعيين السياسية والمحامية نخشة ناصح (كاتبة هذه السطور) رئيسةً للبلدية في عام 2016 شهادةً على موقف المدينة التقدمي بشأن المساواة بين الجنسين. أصبحت حلبجة منارة للتعايش والفكر والثراء الثقافي، حيث تبنى أهلها الأفكار الجديدة وحب الحياة وحرية التعبير.

 

مستقبل حلبجة

اعترافاً بأهميتها التاريخية ومساهماتها، أعلنت حكومة إقليم كوردستان مدينة حلبجة محافظةً في عام 2015. فبعد أن كانت قضاءً منذ أوائل عشرينات القرن الماضي، تقف الآن كمحافظة لها قُراها وبلداتها وأحياؤها الخاصة.

اليوم، تُعَدّ حلبجة رمزاً للهوية الكوردية والمرونة، وهي معروفة عالمياً بماضيها المأساوي وحاضرها النابض بالحياة. إنها مدينة تزدهر فيها الفنون والأدب والفكر والسياسة، وتستمر فيها روح الحرية والتقدم في الازدهار.

تظل عيون العالم ثابتة على حلبجة، حيث تجسد أمل وعزيمة الشعب الكوردي.


الصور من أرشيف مركز  ژین

 


نُخشة ناصح

سياسية تشغل حالياً منصب قائمقام حلبجة




X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved