حريق سينما عامودا .. جرح الذاكرة الذي لا يندمل
حريق سينما عامودا .. جرح الذاكرة الذي لا يندمل
December 29, 2024

لا تزال ليلة الثالث عشر من تشرين الثاني / نوفمبر 1960، تُشكل شريطاً مريراً من ذكريات الفقد وضياع الحقوق. في تلك الليلة المشؤومة فقدت عامودا المئات من أطفالها؛ بعد أن قرر مدير الناحية عرض فلمٍ في سينما شهرزاد بعامودا ليوم كامل، بحجة تخصيص ربع عائدات الفيلم للثورة الجزائرية. وبدلاً من عرض فيلم عن الثورة، عُرض فيلم «جريمة منتصف الليل» بطولة «محمود المليجي»، والذي لم يكن يناسب أعمار التلاميذ. ورغم كثرة وأهمية التقارير والمواد الصحفية التي كُتبت عنها، تعود مجلة «كوردستان بالعربي» لتفتح الباب مُجدداً، عبر مُجايلي حريق السينما، وكيف كانت ردة فعل النُخب الجزائرية التي تم التواصل معها.

زارت مجلة «كوردستان بالعربي» منزل السيد محمد رستم (من مواليد عامودا 1950) في القامشلي حيث أعاد سرد ذكرياته بدموعه التي استذكر بها شقيقه الذي فقده. قال للمجلة «أجبرونا على الحضور، تحت التهديد، والترغيب بالرقص والغناء، ولم أكن أعلم أنها حفلة الوداع للمئات من أصدقائي. وكان والدي يصرخ علينا أنا وإخوتي، لا تذهبوا، لا علاقة لنا بالموضوع. لكني أصررت على الذهاب، وفعلتها خلسةً». يضحك قليلاً ثم يقول «قالوا لنا إن ثمن تذكرة الدخول سيخصص لدعم الثورة الجزائرية، لكني شاهدت عدداً من البطاقات مرمية على الأرض، انتشلت إحداها ودخلت للسينما، كان شقيقاي ينتظران أمام الباب، كانا أيضاً بلا بطاقات، ودخلنا، بعد أن سمح لنا أحد المسؤولين بذلك، وكان قسم ممن أعرفهم أيضاً دخلوا بالمجان، بخلاف العروض التي سبقت عرضنا، ألزموهم بالدفع، وكان مخصصاً لطلبة المرحلتين الإعدادية والثانوية».

ويقدم الحاج محمد شيخموس (من مواليد عامودا 1949)، وأحد الناجين من الحريق، وصفاً للسينما وفقاً لما يتذكره «كانت عبارة عن فناء كبير لا يتسع لأكثر من 200 شخص، حُشر فيه قرابة 500 طفل، طوله 20 متراً وعرضه 6 أمتار، ويرتفع عن الأرض حوالي 50 سنتمتراً، مُقسم إلى قسمين، اللوج / البلكونة، مُشكَّلة من الخشب والطين، وفي الأسفل عبارة عن اللبن، أو ما يُسمى باللهجة العامية «الكلبيج»، وتم تغطية السقف بالأخشاب والتبن والطين والحصيرة وهي جميعاً مواد سريعة الاشتعال. وكان يتم الاعتماد في تشغيل جهاز عرض الفيلم السينمائي، على مولد كهربائي يعمل على الديزل، ووفقاً لنوع وطبيعة الحياة في الستينات من القرن الماضي، فإن الكثيرين من أهالي عامودا أكدوا، سوء نوعية الأجهزة وبدائيتها. وأضاف شيخموس لمجلة «كوردستان بالعربي»: «يُقال إن مدير السينما كرر تنبيه السلطات إلى ارتفاع حرارة محرك العرض القديم بسبب العروض المتكررة، إلا أن السلطات الأمنية أصرت على استمرار الفيلم لتندلع شرارة النيران وتتسع حلقتها بسرعة كبيرة ومع دخان كثيف، لم نحتمل حرارة المكان ولا لهيب النار أو الدخان الأسود والخانق، لم يكن أمامنا سوى باب صغير يفتح باتجاه الداخل، وآخر في الجهة الشمالية للسينما، لكن كثافة النيران والدخان، دفعت الغالبية للتوجه صوب الباب الصغير، خاصة وأن ألسنة النار كانت تخرج من النوافذ».

يتوقف قليلاً عن الحديث، يُزيل نظارته السميكة، يخرج منديلاً أبيض من جيبه ويمسح دموعه ليقول بعد ذلك بصوت مبحوح «الأجساد تراكمت أمام الباب، وكلهم سقطوا على بعضهم البعض، لم يتمكن الأهالي في الخارج من فتح الباب بسبب كثافة العالقين خلف الباب، كُنت أسمع الأصوات والنداءات». نجا شيخموس مع محمد رستم وآخرين عبر لجوئهم إلى كشك لبيع الأطعمة والمكسرات، بعد أن رموا بأنفسهم من اللوج، يقول رستم" «كسرت يدي جراء ارتطامي بالأرض، واحترق كامل الجلد واللحم في يد شقيقي الثاني، الذي تلقى العلاج على يد الطبيب المصري زهير. بعد أن كسر الأهالي الجدار الخلفي وتم إنقاذنا، فقدنا أكثر من 300 طفل، غالبيتهم العظمى من الصفوف الثلاث الأولى للمرحلة الابتدائية، مع 15 جثة مجهولة الهويّة لأطفالٍ احترقوا بالكامل، ولم يتم التعرف على وجوههم، ما دفع الأهالي لدفنهم معاً في قبر واحد، للأسف رمى بعض الأطفال بأنفسهم من أحد النوافذ التي لم تكن النار قد وصلتها بعد، لكنهم سقطوا في البئر الموجودة خلف النافذة، وكانت عبارة عن بئر ارتوازية، فتحتها كبيرة وغير مغطاة».

يعود محمد رستم إلى فتح باب ذكرياته فيقول: «أسعفونا للمشافي، وأذكر أن المسيحيين قدموا لنا المساعدة وبعض المستلزمات، مقابل ضعف الخدمات المقدمة من الحكومة، وقلة عدد الأسرّة في مشفى عامودا الذي لم يكن يكفي لاستقبال الأطفال، لذا نقلوا قسماً كبيراً منا إلى مشافي القامشلي. وأتذكر أن طبيباً مصرياً طلب مني تناول كميات من الموز، وبعد لحظات شعرت بوجود كتلة كبيرة في المعدة، تقيأت وكأنني أرمي كتلة كبيرة من الوحل الشديد السواد، كان عبارة عن تجمع الدخان والأوساخ في المعدة. أخي الثالث لم يتمكن من السير، شاهدته قبل أن نفقد إمكانية الرؤية، كان أكثر من طفل يتعلقون بثوبه كلما حاول النهوض، وكانت هذه آخر لحظة أراه فيها، مات حرقاً». 

شاهدٌ على المحرقة من خارج السينما، كما يصف نفسه، الحاج عبد الرزاق مجيد المهاجري (من مواليد 1955)، قال لـ«كوردستان بالعربي»" «لم يوافق أبي على ذهابي، ورفضت والدتي أن أحضر الفلم كانت تقول وهي تخبز الخبز ستخافون من العرض ونحن خائفون عليكم، أتذكر خالتي التي كانت تركض خلف ابنها لمنعه من الذهاب للسينما، ورغم أنها لم تعطه ثمن التذكرة، لكنه تمكن من الدخول للسينما، ولم يعد وتحول لذكرى كغيره من رفاقه في الحيّ والمدرسة».

يعود المُهاجري بذاكرته إلى يوم الحادثة «دخل والدي المنزل، قادماً من المضافة، كان يُغير ثيابه، قبل أن تتعالى الأصوات والصيحات في الأحياء والأزقة، رافقتها حركة مكثفة، ركضٌ وهرولة، وضرب على الأبواب. كانوا يُطالبون الأهالي بالخروج بسرعة، ويصيحون السينما احترقت، وأبناؤكم احترقوا، كانت كل أمٍ تُنادي على ابنها الموجود في السينما، لن أنسى ذلك اليوم، خرج أبي حافي القدمين،  كان والدي يُكرر دوماً على مسامعنا ما شاهده هناك»، وأضاف: «وصلت سيارات الإطفاء من تركيا وساعدت في إخماد النار، ولم يكن الإطفاء قد وصل بعد من القامشلي، واكتفت الشرطة بالمشاهدة، ولم يقدموا أيّ مساعدة، ورغم أن السينما كانت أهلية / خاصة، كانت الجُثث تُنقل بعربات تجرها البغال، صاح أبٌ مكلوم بأبنائه المحترقين، هل ترغبون بالشواء، تفضلوا هذا لحمُ مشّوي. جارنا الذي كان يبحث عن ابنه، لم يتعرف عليه، لكن صديقه أخبره أن هذا الجاكيت هو لابنك، أنت اشتريته له يوم أمس».

ثم قال إن والده أخبره أن «محمد سعيد آغا دقوري علم بخبر الحريق، فأسرع لإنقاذ الأطفال، وفي الطريق شاهد ابنه الذي قال له: يا والدي تمكنت من النجاة، لنذهب للبيت. لكن محمد آغا قال له كل أطفال عامودا هم أطفالي، وتمكن من إخراج عدد منهم من بين اللهيب، قبل أن تقع على رأسه جمرة نار كبيرة، أردته قتيلاً مع الأطفال الذين في حضنه».

 

أكاديمي جزائري: لم نسمع بالقصة ويجب نشرها في إعلامنا

في اتصال مع الدكتور محمد طاهر، أستاذ العلوم السياسية من الجزائر، قال: «لا أعتقد أن أحداً من مجاهدي الثورة الجزائرية التحررية قد تعرض لهذا الموضوع، أو حتى التطرق له، لكن أعدكم أنني سأبذل قصارى جهدي للبحث والتنقيب عن القضية في الوسط الجزائري». يتوقف قليلاً وكأن غصة انتابت قلبه، ثم يضيف «كل التقدير والاحترام لأرواح ضحايا وشهداء الأطفال الكورد في عامودا، فقدوا حياتهم لأجل ثورتنا. والمؤسف أننا لا علم لنا بما حدث كل هذه العقود، الكورد إخوتنا ومكون مهم من مكونات الأمة الإسلامية، مواقفهم التاريخية التي يعترف بها العدو قبل الصديق خير شاهد على نخوتهم. إننا في الجزائر ندين لهم بفضل نصر قضيتنا تجاه الاستعمار الفرنسي، ويبقى هذا الحادث حياً في نفوس الأجيال عرفاناً بالجميل، أن يفقد أطفالٌ في عمر الزهور حياتهم لأجلنا، فلا بد للجزائريين أن يثمنوا هذا الموقف عالياً».

ويضيف الدكتور طاهر قائلاً: «علينا تدوين ها الحدث المهم جداً، كي يبقى حياً في ذاكرتنا الجمعية وألا ننسى هذه المساندة الكوردية ودعمهم لنا في أحلك وأصعب الظروف التي مر بها شعبنا في سبيل نيل حريته والتخلص من الاستعمار، علينا استحضار هذا الحادث في كتبنا ومقرراتنا الدراسية وهو أضعف الإيمان، وسأعمل شخصياً على هذا الموضوع وضرورة الاطلاع العميق من قبل الجزائريين على هذه الحادثة، والدعم الكوردي للثورة الجزائرية وستصبح مجزرة عامودا مثالاً على ذلك التعريف بها، وعرضها في الإعلام الجزائري. ويجب نشر العديد من المقالات حول الموضوع في المجلات الجزائرية».

لا تزال خبايا وتفاصيل مجزرة سينما عامودا التي وقعت عام 1960 بعيدة عن الإعلام العربي، بل إن الجزائريين أنفسهم، لا يعلمون شيئاً عنها، ولم تكن في يوم من الأيام، ضمن حلقات البحث التاريخي في الجامعات، ولم يسبق أن أطلع عليها أو بحث فيها الإعلام الجزائري. ورغم مرور أكثر من ستة عقود على المجزرة، لا تزال رغبة الأهالي من ذوي الضحايا مستمرة في كشف ملابسات وحقيقة الحادث الأليم.

 


شڤان إبراهيم

كاتب وأكاديمي كوردي، يكتب في العديد من المواقع ومراكز الدراسات




X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved