لعلها من المفارقات التاريخية المهمة في كوردستان والعراق ولربما الشرق الأوسط، والتي لها دلالات خاصة بها هي تحول مدرسة أربيل الأولى من وظيفتها التدريسية إلى مركز شرطة، لتعود بحلة تتجاوز مفهوميها السابقين ولتتحول إلى أول متحف تربوي للمعلمين ليس في كوردستان والعراق فحسب، بل وفي الشرق الأوسط كلها، لما تحمله من صيغة واقعية ورمزية في آن واحد!
مدرسة أربيل الأولى، التي يعود تاريخ افتتاحها إلى نهاية عشرينات القرن الماضي، تغيرت صيغة وظيفتها أكثر من مرة خلال تاريخها. إذ أن هذه المدرسة، التي شُيِّدت من قبل أحد رجالات أربيل الأغنياء بعد أن عجزت الحكومة الملكية آنذاك عن توفير المخصصات المالية اللازمة لها مما دفع رجل المروءة والأكابر أحمد ناجي لبيع قطعة أرض تابعة له وتحويل المبلغ إلى الحكومة العراقية لتشيد بناية المدرسة الحالية التي تقع في وسط المدينة بجانب مصرف أربيل وعلى بعد عشرات الأمتار فقط عن قلعة هَولير (أربيل) الزاهية!
المدرسة ذاكرة لعشرات الطلاب والمعلمين الذين تخرجوا منها، وعاش بعضهم ملاصقين لها، إذ تم بناء غرفة للطلاب من أهالي القرى الفقراء في أربعينات القرن الماضي لكي يكملوا دراستهم فيها. إنها ذاكرة التنوع الإثني والديني والقومي، ذاكرة التنوير والحماس والمثابرة لعدة أجيال من النساء والرجال، من عمالقة الفكر والثقافة والمعرفة الذين مروا بظروف صعبة ومعقدة لكنها لم تنل من عزيمتهم في التعلم.
فكرة المتحف
من شاعر إلى محافظ إلى أسماء راحلين وأحياء ازدانت بهم قاعات المتحف حين طرح الشاعر إسماعيل برزنجي عام 2010 فكرة إنشاء متحف أرشيفي للتربية والتعليم، اندمجت الحكومة المحلية في محافظة أربيل برئاسة المهندس نوزاد هادي بهذه الفكرة، وبدأت العمل لبضع سنوات من إعمار وتنسيق وإشراف لتكون خاتمتها في عام 2014 بناية زاهية ذات أكثر من ثلاثة عشر قاعة تحمل أسماء فنانين وكتاب ومعلمين وشخصيات وطنية تخرجت من «معطف» مدرسة أربيل الأولى!
قاعات للتاريخ والمعرفة والكفاح
للزائر الذي سبق أن زار المتحف، سيرى التطورات التي جرت وتجري على المتحف من فترة إلى أخرى حيث يتم استحداث مواقع وأماكن مختلفة في البناية ذاتها لمدرسة أربيل الأولى من أجل التوسيع والتنويع من قبل طاقم العمل الذي يدير هذا المكان الجميل، حتى أن أروقة المتحف بدأت تُستغل بشكل أكبر من أجل استعجاب كل ما هو جديد متعلق بحياة وتاريخ التربية والتربويين في أربيل.
القاعات تعبير عن تلك الشرائح التربوية المختلفة، إذ أن هناك قاعة لأوائل المعلمات اللواتي كافحن من أجل التعليم بصبر ودعم من عوائلهن، ومنهن الرائدة شكرية علي چياووك التي تخرجت منتصف ثلاثينات القرن الماضي من بغداد لتمارس التدريس في أربيل، أعمال فنية تشكيلية لفنانين من أربيل، منهم دانيال قصاب وأسكندر عثمان، وصور وبعض المقتنيات للمطربين فؤاد أحمد وعمر دزَيي، وتماثيل وصور للدكتور معروف خزندار وجمال خزندار، وزوايا وفاترينات لشخصيات أربيلية مختلفة في قاعة موسى خليل وخدر مولود، ومصطفى شعبان، وإسماعيل سرهنگ، وغيرها من القاعات تضم صوراً ووثائق تخرّج وكتباً ودفاتر مدرسية لعزالدين فيضي، وكريم شارزا، وعبد الله عزيز، وعمر محمد أمين، وممتاز حيدري، وبابا شيخ صديق وآخرين. كما توجد قاعة خير الله عبد الكريم التي تضم عدداً من الشهداء التربويين: نافع يونس، وجمال الحيدري، وعادل سليم و.... الخ.
بقي أن نقول إن المتحف عبارة عن وثيقة، وحديقة، وسياحة في ذاكرة أربيل التربوية والثقافية، وتاريخ مصغر لكنه كبير في معناه ورمزيته وحقائقه عن أربيل وتربوييها وشخصياتها التي عملت في سلك التعليم لعقود من أجل المعرفة والعلم، إنه زبيب المعرفة، حلو الطعم ومفيد وتلك هي أربيل كما عرفناها!
كفاح الأمين
كاتب وصحفي وباحث فوتوغرافي كوردي. تخرج من كلية الصحافة بجامعة موسكو