عند قمم جبال دهوك، وبين المروج الخضراء والتلال المغطاة بأشجار البلوط، يعيش راكان فرحان، الراعي الثلاثيني، حياة يومية مليئة بالتحديات والأمل. يخرج صباح كل يوم مع أغنامه، يجوب الوديان والتلال حتى غروب الشمس، مؤدياً دوراً يجسد الصمود في وجه أزمات الجفاف والتغير المناخي التي تعصف بالعراق.
رحلة نزوح فرضها الجفاف
قبل أكثر من 17 عاماً، وفي مواجهة موجة جفاف قاسية اجتاحت منطقة ربيعة غربي محافظة نينوى، أجبر راكان، الذي كان يبلغ من العمر 13 عاماً، مع عائلته على مغادرة قريتهم. تسببت تلك الأزمة في خسائر كبيرة للمزارعين ومربي المواشي، حيث جفت الأراضي، وتناقصت مصادر المياه، مما اضطر الكثيرين إلى بيع مواشيهم أو ترك مهنة الرعي تماماً.
لكن عائلة راكان اختارت طريقاً آخر. نزح أفرادها إلى محافظة دهوك، وأخذوا معهم ما تبقى من أغنامهم في محاولة للنجاة. وبمرور الوقت، تمكنوا من إعادة بناء حياتهم في هذه المنطقة التي وفرت طبيعتها الغنية بالمراعي فرصاً للاستمرار في مهنة تربية الأغنام.
موطن جديد وفرصة للاستمرار
منذ استقرارهم في دهوك، وجد راكان في مروج باتيفا شمالي المحافظة بيئة مثالية لرعي أغنامه. يقول راكان: «الطبيعة الخلابة في دهوك والمراعي الوفيرة أنقذت أغنامنا. بدون هذه المنطقة، ربما كنا قد فقدنا كل شيء».
يملك راكان اليوم أكثر من 1000 رأس غنم، ويواصل ممارسة المهنة التي نشأ عليها منذ طفولته، حين كان يساعد والده وإخوته في تربية الأغنام. يرى أن الرعي ليس مجرد مهنة، بل أسلوب حياة وأحد الأركان الأساسية لتراثه العائلي.
التغير المناخي يهدد الحياة الريفية
يُعد العراق أحد أكثر الدول تأثراً بالتغيرات المناخية، حيث صنفته التقارير الأممية ضمن قائمة الدول الخمس الأكثر عرضة لأزمات الجفاف. انعكست هذه الأزمات على مختلف جوانب الحياة، وتسببت في فقدان آلاف الهكتارات الزراعية، ونزوح آلاف الأسر من مناطقهم الريفية بحثاً عن موارد جديدة.
وفقاً لمنظمة الهجرة الدولية، فقد نزحت حوالي 13,920 أسرة في عشر محافظات عراقية بسبب الجفاف بحلول منتصف عام 2023. وتؤكد المنظمة أن شح المياه وازدياد ملوحة الأنهار تضع ضغوطاً هائلة على الزراعة وتربية المواشي، مما يهدد سبل العيش التقليدية للمجتمعات الريفية.
أزمة المياه ومستقبل العراق
يشير عبد الله قادر بربيري، رئيس منظمة مياه كوردستان، إلى أن انخفاض منسوب المياه في نهري دجلة والفرات، اللذين يشكلان 95%من مصادر المياه السطحية للعراق، يفاقم الأزمة. يقول بربيري: «العراق يحتاج إلى 50 مليار متر مكعب من المياه سنوياً لإنعاش قطاع الزراعة. لكن بسبب سوء إدارة الموارد المائية، فإن المستقبل يبدو غير مشجع، خاصة مع توقعات بارتفاع عدد السكان إلى 75 مليون نسمة بحلول عام 2050».
وجهة الرعاة النازحين
تحولت محافظة دهوك إلى ملاذ للرعاة النازحين من محافظات مثل نينوى وتكريت، الذين دفعهم الجفاف إلى الهروب مع مواشيهم بحثاً عن مراعٍ أكثر وفرة. وتنتشر في القرى والأرياف المحيطة بالمحافظة حظائر الأغنام التي يديرها هؤلاء الرعاة، الذين يعتمدون على المراعي الطبيعية وخدمات البيطرة التي توفرها السلطات المحلية.
أمين ياسين، مسؤول إعلام مديرية بيطرة دهوك، يوضح أن «المراكز البيطرية في دهوك تقدم خدماتها للجميع دون تمييز، بما في ذلك حملات التلقيح وعمليات التعقيم، لضمان صحة الماشية واستدامة القطاع».
كرم الضيافة ومجتمع جديد
تنقل راكان خلال سنواته التي قضاها في دهوك بين عدة قرى وأرياف، وكان دائماً يجد كرم الضيافة والتعاون من السكان المحليين. يقول: «لم أشعر يوماً بالغربة هنا. السكان يتعاملون معنا بكل احترام وتقدير، مما جعلني أفضل البقاء في دهوك بدلاً من العودة إلى منطقتي الأصلية».
يشعر راكان بالامتنان للطبيعة والمجتمع في دهوك، اللذين مكناه من تجاوز تحديات الجفاف واستمرار حياته كراعٍ.
قصة صمود وارتباط بالأرض
قصة راكان فرحان ليست مجرد قصة راعٍ يكافح الجفاف، بل هي شهادة على التكيف الإنساني مع الأزمات. بين المراعي الخضراء في دهوك، يواصل هذا الراعي الشاب الحفاظ على مهنته وتراثه، متحدياً كل الصعوبات.
تعكس قصة راكان صمود المجتمعات الريفية أمام أزمات تغير المناخ، وتبرز أهمية دعم هذه المجتمعات لمواجهة التحديات البيئية التي تهدد حياتها وسبل عيشها.
رشيد صوفي
صحفي كوردي عمل في الصحافة المحلية والدولية