«نانِي تيري».. خبز بنكهة الماضي العريق
«نانِي تيري».. خبز بنكهة الماضي العريق
December 31, 2024
الصورة: سفين حميد

 

لم يكن «نانِي تيري» مجرد رغيف خبزٍ في المطبخ الكوردي، بل هو حكاية شعبٍ وتراثٍ متجذر في عمق التاريخ. هذا الخبز الرقيق، المعروف أيضاً باسم خبز الصاج، يحمل في طياته قصصاً من الصمود والأصالة، ويُجسِّد هويةً ثقافيةً راسخةً في الموروث الكوردي.

موروثٌ يتجدد كل صباح

تنبعث رائحة «نانِي تيري» الزكية في بيوت الكورد مع إشراقة كل صباح، حيث يتميز هذا الخبز الخفيف، الشبيه بخبز الرقاق العراقي، بخصائص فريدة تجعله عنصراً أساسياً على مائدة الإفطار. وما يزيد من قيمته الغذائية قدرته الاستثنائية على الاحتفاظ بجودته لشهورٍ من دون أن يفقد مذاقه المميز، مما يجعله رفيقاً مثالياً للمأكولات التقليدية من الألبان والمقليات.

شهادات حية من ذاكرة الماضي

تستذكر السيدة خيرية محمد، إحدى حارسات هذا التراث العريق، قائلةً: «رغم صعوبة إعداد الخبز في الأجواء الصيفية الحارة، إلا أنه كان ملاذنا في أيام العوز والمحن». وتضيف بحسرة: «عشنا سنواتٍ قاسية خلال حكم الأنظمة السابقة التي ناصبت الكورد العداء، وكنا نجمع الحطب لتسخين الصاج وإعداد خبز تيري».

الصورة: سفين حميد

 

بين حرفية الماضي وتحديات الحاضر

في مخبزها المتواضع، تحافظ أم سينا على أصالة هذا الخبز التقليدي. وتوضح لمجلة «كوردستان بالعربي»: «أعتمد في صناعته على مزيجٍ متقنٍ من الطحين الأسمر والأبيض مع القليل من الملح، دون إضافة أي مكونات أخرى». ويعمل في مخبزها خمس عاملات ينتجن يومياً ما بين 200 إلى 400 رغيف حسب الطلب.

وفي المقابل، تمثل گَشاو ئاري باباني، البالغة 23 عاماً، صوت الجيل الجديد الذي يواجه تحديات اقتصادية معاصرة، حيث تقول: «أخبز يومياً ما بين 200 إلى 250 رغيفاً لمساعدة زوجي في تحمل أعباء المعيشة».

قيمة غذائية وفوائد صحية

تؤكد الدكتورة خولة حمدي، أخصائية الأمراض الباطنية المتقاعدة، لمجلة «كوردستان بالعربي» أن التحليلات المختبرية لـ«نانِي تيري» أظهرت احتواءه على نسبة منخفضة من السعرات الحرارية والدهون، مما يجعله «خياراً مثالياً لمرضى القلب. كما أن النوع الأسمر منه يُعد مناسباً لمرضى السكري».

وتشير الدكتورة حمدي إلى فوائده الصحية لمن يعانون من مشكلات في القولون والجهاز الهضمي، «نظراً لخلوه من المواد الكيميائية». وتضيف أن رقة هذا الخبز وقلة محتواه من العجين تسهل عملية الهضم، مما يجعله «خياراً مناسباً لمتبعي الحمية الغذائية».



تحديات العصر الحديث

تشرح المعلمة سارة محمد التحديات المعاصرة التي تواجه صناعة «نانِي تيري» قائلةً: «الجهد البدني الكبير المطلوب في صناعته، إلى جانب متطلبات العمل ورعاية الأسرة والمسؤوليات اليومية الأخرى، دفع النساء للاعتماد على المخابز والأفران التجارية».

وتختتم سارة حديثها بنبرة حنين: «أشتاق إلى أيام الطفولة ومذاق خبز تيري الأصيل الذي لم يعد يُصنع اليوم إلا في الأعياد العائلية بالقرى الكوردية».

خلاصة تراثية

يظل «نانِي تيري» أو خبز الصاج عنصراً جوهرياً في المطبخ الكوردي التقليدي، يُصنع على صاج معدني ساخن، ويتميز بخفته وقدرته على الحفظ لفترات طويلة. ورغم التحديات الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة، يحتفظ بمكانته المميزة في الثقافة الكوردية، خاصةً في المناسبات التقليدية والاحتفالات.

إن «نانِي تيري» ليس مجرد طعام، بل هو شاهد حي على قدرة الشعب الكوردي على الحفاظ على تراثه وهويته. ومع كل رغيف يُخبز، تتجدد قصة الصمود والأصالة، محافظةً على نكهة الماضي العريق ومستشرفة آفاق المستقبل.


رياض الحمداني

صحفي ومؤلف عمل في العديد من المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية






X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved