أربيل... الأصالة أو الحداثة؟
أربيل... الأصالة أو الحداثة؟
December 31, 2024
الصورة: سفين حميد

أتجول في أربيل وحدي راجلاً أو راكباً. أتوقف فجأة.. ثمة بيوت وأمكنة تستدعي ذاكرتي. هنا، في هذا الفندق، بقناديله الأربعة، قضيت ليلة بين دبابتين تحرسان المدخل، خلف هذا الباب المغلق، كانت حانة تركية، فيها علمتني امرأة جميلة على تدخين الأركيلة، سلمتني المبسم من دون أن تمسح حمرة شفتيها، ثم علمتها لامرأة أخرى.

في هذا المشتمل الضّيق سكنت عاماً ونصف العام على مسافة أمتار من وكالة «أصوات العراق» التي كنت أديرها. أنهيت كتابي «حرب العاجز» في هذا المقهى. وضعت نقطة الختام ورفعت رأسي لأرى الحياة. تحت القلعة وعلى تخت هذا المقهى احتفلت لوحدي بعيد ميلادي... أتجول وأستغرب كيف ابتعدت عني هذه المدينة ونسيتني. أتيه بين عماراتها الجديدة وقراها العصرية.. قرية إنكليزية، وأخرى أمريكيةً، وثالثة إيطالية… مجمعات بعمارات باذخةً بنيت في غيابي. تمرّ بي سيارات فارهة مظللة الزجاج تخطف مثل أشباح مسرعة إلى مكان وعمل أجهله. سائق السيارة الكهل الكث الشاربين، يلتفت إلي وقد لاحظ ذهولي يسألني:

- هل تعرف ما أنت ذاهب إليه؟

- تهت!

أقول له وأنا أتلفّت محاولاً استدعاء ذاكرة كثيرة الثقوب... يبتسم:

- هذا يحدث كثيراً لمن يأتون من الخارج. أربيل تتغير بسرعة. أنا نفسي لا أعرف بعض مناطقها الجديدة.

كلانا تائه، والأحرى المدينة نفسها تائهة بين الحداثة والأصالة. تتقدم بقفزات ثم تلتفت للوراء وتتقدم ثانيةً، إلى أين؟

لي تاريخي الخاص بالمدينة. حين نأتيها من جنوبها ندخل من فتحة بين التلال ثم تظهر المدينة فجأة مفروشة في منخفض تتوسطه القلعة. كان عمري أقل من عشر سنوات حين رأيت المدينة لأول مرة. الفصل آنذاك كان صيفاً بامتياز. نمنا على سطح (فندق) صغير عند سفح القلعة. نام والدي متعباً من الرحلة وبقيت أحدق في القلعة. أيقظت في خيالي قصص الأساطير التي سمعتها أو تخيلتها. على طريق ضيق مترب رأيت شيخاً محدودباً يدبّ صاعداً إلى بيته. تتبعت خطواته البطيئة «كيف سيصل؟!» كان هذا أعلى جبل رأيته آنذاك. عيني تتبعت خطواته، خطوة، خطوة حتى وصل فنمت. 

القلعة نفسها بقيت في خيالي نقطة ارتكاز، أثبّتها خلف ظهري لأحدد اتجاهي نحو أربيل الأخرى. بينها وبين أهلها عقد غير مكتوب بأن لا تستحيل تاريخاً منقطعاً، بل بقيت أقدم مدينة ما تزال مسكونة.. حضارة فوق حضارة بلا انقطاع. 

لم أنقطع، أدمنت زيارة أربيل في حربها وسلمها. زرتها مع وفد صحفي عام 1974 وقد هيأت ذهني وخيالي لدخول دولة الجمال المستباح. فوق قمم الجبال والتلال تستقر الربايا العسكرية المطوّقة بأكياس الرمل وفوهات المدفعية. تحتها قرى أحرقت أمام أعين سكانها، لكي تنام الربية بأمان. وخلف التل التالي جمال آخر يقول: انتظر لترى ما بعد! سهول، سهول بلا ناس خطّتها الأسلاك الشائكة وزرعت أرضها بالألغام، وعلى جانبي الطريق هياكل سيارات محروقة وملابس جنود علقت بالشوك. 

في التسعينات رأيت الثكنة العسكرية تتحول إلى حديقة عامة والدكتور سامي عبد الرحمن يراقب أول الشتلات وهي تزرع فيها قبل أن تتحول إلى بارك يحمل اسمه. 

القلعة بقيت ركيزتي في معرفة المدينة. عام 2014 نظمّتُ مشروعاً للتاريخ الشفاهي مع أكثر من ستين شخصية بينهم بعض ممن ولدوا وكبروا في القلعة. حدثوني عن حياتهم فيها وقالوا إن القلعة كانت حدود مدينتهم وتذكروا أول بيت بني في (طيراوه). «كنا نراقب هذا الضوء الوحيد ونتساءل: متى تأكله الذئاب؟».

في السنوات التي سكنت المدينة، أدمنت الدوران حول القلعة. آكل الكباب في مطاعم قريبة منها، أشرب الشاي في مقهى ملاصق لها. أحلق شعري وأنا أرى في المرآة وجهي وخلفه القلعة. أدور في الشبكة المتداخلة لأسواقها، أحب أن أتيه في بهجة الألوان، ثم أخرج فتراني القلعة وتدلّني على الطريق إلى بيتي. 

المدينة ارتبطت في ذاكرتي بالقلعة التي شملت هوية المدينة وتاريخ ناسها. لذلك كنت أشعر بالانفصال والضياع حين تبتعد العمارات الملساء البراقة عن هذا المركز الأصيل نحو حداثة بلا هوية. أعرف أن المدينة تتوسع وتتجدد بفعل ديناميتها الخاصة وحاجات الناس وهم يعيشون تجدد التاريخ. أعرف أن مواد البناء تتجدد وتفرض نفسها. لا أشم رائحة الطابوق حين يهطل المطر. جدران بلا رائحة ولا ملمس، أعرف أن أجيالا جديدة تنظر إلى القلعة وناسها كعينات من التاريخ الذي غادروه.  خالفوا آباءهم بحثاً عن أماكن جديدة، شوارع جديدة، وسكن مختلف.

مع ذلك أرى أن أربيل الجديدة تهرب من ماضيها بسرعة تخيفني. ولذلك أسأل نفسي ومن حولي: أما من خط رمادي يجمع أصالة القلعة وحداثة الأحياء الجديدة؟


زهير الجزائري

كاتب وروائي عراقي






X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved