في قلب الشرق الأوسط، تنبض حضارة عريقة بتراثها الغني وتقاليدها الراسخة. إنه عالم المطبخ الكوردي، ذلك الكنز الدفين الذي يروي قصة شعب وثقافة عبر لغة الطعام. وها هو الكاتب الأردني الكوردي خالد إسحاق شيخو يفتح لنا بوابة هذا العالم الساحر من خلال كتابه «المطبخ الكُردي»، الذي يعد ثمرة عقد كامل من البحث والتنقيب في أعماق التراث الكوردي.
لم يكن هذا العمل مجرد تجميع لوصفات طهي عادية، بل كان رحلة استكشافية شاقة قادت شيخو إلى ينابيع المعرفة الأصيلة. فقد استعان بمجموعة من الرواة الموثوقين، الذين حملوا على عاتقهم أمانة نقل أسرار المطبخ الكوردي من جيل إلى جيل. وهكذا، تحول الكتاب إلى سجل حي يحفظ تراثاً كاد أن يضيع في زحمة الحياة المعاصرة.
يتميز المطبخ الكوردي بتنوع مذهل في أطباقه، حيث تتناغم النكهات القوية للحوم المواشي مع حبات البرغل الذهبية، وتمتزج الدهون الحيوانية بألوان الخضروات الزاهية كالباذنجان والطماطم. ورغم التأثيرات المتبادلة مع المطابخ المجاورة، إلا أن المطبخ الكوردي حافظ على هويته الفريدة، ليبقى شاهداً على أصالة ثقافية لا تقبل الذوبان.
ومن بين كنوز هذا المطبخ العريق، يبرز خبز التنور كعنصر أساسي على المائدة الكوردية. كما يحتل البرغل مكانة خاصة، فهو ليس مجرد طعام، بل استراتيجية بقاء ضد قسوة الطبيعة. أما «المن والسلوى»، فهي شهادة على كرم الطبيعة الكوردية، إذ تجمع من أشجار الجبال كهدية سماوية.
ولعل من أبرز ما يميز المطبخ الكوردي هو احتفاؤه بوجبة العشاء، التي تتحول في البيوت الكوردية إلى طقس يومي تتفنن فيه النساء في إعداد أشهى الأطباق وألذها. وهكذا، يصبح المطبخ الكوردي أكثر من مجرد وسيلة لإشباع الجوع؛ إنه احتفال يومي بالحياة والتراث والهوية.
توثيق التراث وإحياء الذائقة
في حوار مع مجلة «كوردستان بالعربي»، يكشف خالد إسحاق شيخو عن رحلته الشاقة في تأليف كتابه «المطبخ الكُردي». استغرقت هذه الرحلة عقداً كاملاً، مثّلت تحدياً كبيراً تطلب جهداً مضنياً في جمع المعلومات وتوثيق الوصفات بدقة متناهية.
يصرح شيخو قائلاً: «كان الأمر يتطلب التحقق من كل وصفة بدقة، مما جعلني أبحث في مصادر متعددة وأستعين بخبراء لضمان صحة المعلومات. كما كان هناك تحديات مالية لتمويل طباعة الكتاب».
ويضيف شيخو أن تركيزه انصب على الأطباق التقليدية المتوارثة عبر الأجيال، مع ترحيبه بتطوير الوصفات من قبل الطهاة الكورد، شريطة الحفاظ على المكونات الأساسية. ويشدد على أهمية الحفاظ على الوصفات التقليدية وإحيائها، لاسيما في ظل التحولات الثقافية والاقتصادية التي قد تهدد بعض الأكلات بالاندثار.
مسيرة حافلة بالتحديات
واجه شيخو عقبات عديدة أثناء تأليف الكتاب، من بينها ندرة المصادر المتاحة في الأردن وصعوبة الحصول على معلومات دقيقة حول بعض الوصفات. ورغم هذه التحديات، لاقى الكتاب استحساناً من البعض، على الرغم من الصعوبات التي واجهها في الترويج له عقب تفشي جائحة كورونا.
يتطلع شيخو إلى أن يسهم كتابه في تعزيز التبادل الثقافي بين كوردستان والأردن، ويأمل في توسيع نطاق الكتاب مستقبلاً ليشمل جوانب جديدة من المطبخ الكوردي. كما يحث على تقديم الأطعمة الكوردية بأساليب عصرية، مقترحاً إنشاء مدارس للطهي لترسيخ التراث الكوردي.
الطعام كسفير للتراث
يسعى شيخو من خلال كتابه إلى تسليط الضوء على الثقافة الكوردية وتعزيز التفاهم المتبادل بين الشعوب. ويرى أن «الطعام يمكن أن يكون جسراً ثقافياً يربط الماضي بالحاضر، ويعزز التبادل الثقافي بين المجتمعات المختلفة».
وفي حديثه عن تأثير هويته المزدوجة على تفاعله مع الأكلات الكوردية، يشير شيخو إلى أن الجمع بين الهوية الكوردية والأردنية يتيح له تقديم الأطباق الكوردية بطرق مبتكرة، ويمكّنه من تعريف الجمهور الأردني بهذه الثقافة بشكل أكثر قرباً وألفة.
المرأة الكوردية حارسة التراث وملهمة الإبداع
يؤكد شيخو على الدور المحوري للمرأة الكوردية في الحفاظ على التراث الكوردي من خلال مسؤوليتها عن نقل التقاليد والمعرفة عبر الأجيال. وتضطلع المرأة بدور أساسي في المطبخ الكوردي، إذ تتولى إعداد الوجبات اليومية مثل «الكبب واليخنات»، مما يعكس براعتها في تحضير الأطعمة التقليدية.
وتتجاوز مساهمة المرأة الكوردية مجرد الطهي، فهي تقوم بتعليم الأجيال الجديدة الوصفات والمهارات المتوارثة، وتبدع في تحديث الأطباق لتتلاءم مع متطلبات العصر الحديث. كما أنها تضطلع بدور رئيسي في تحضير الطعام خلال الاحتفالات والمناسبات الخاصة.
يمثل كتاب «المطبخ الكُردي» لخالد إسحاق شيخو رحلة شاقة ومثمرة في توثيق التراث الكوردي. إنه ليس مجرد سجل للوصفات، بل هو جسر ثقافي يعزز التفاهم والتواصل بين الثقافات المختلفة. ويبقى هذا العمل شاهداً على التفاني في الحفاظ على تراث عريق وتقديمه للعالم بصورة تليق بأصالته وعراقته.
في النهاية، يقدم كتاب «المطبخ الكُردي» لخالد إسحاق شيخو أكثر من مجرد وصفات طهي. إنه يفتح نافذة على عالم غني بالتقاليد والقيم، ويدعونا للغوص في أعماق ثقافة عريقة تروي حكايتها من خلال كل طبق وكل نكهة.
إيمان أسعد
صحفية وناشطة كوردية مقيمة في إقليم كوردستان شاركت في العديد من النشاطات والمؤتمرات المحلية والدولية لمناصرة المرأة