مع بداية دخولي إلى المدرسة، كنت أعود إلى المنزل عبر الطرقات الضيقة التي تعج بحياة مدينتنا. لم تكن الرحلة اليومية من المدرسة إلى البيت مجرد مسافة تقطع، بل كانت تجربة تكتنز بصور وأصواتٍ عديدة، كان أبرزها الصوت الشجي الذي ينبعث من مقهى قريب (الچايخانة كما كان يطلق عليها)، حيث يترنم عبر المذياع بنشيد مميز. كان النشيد يبدأ بصوت قوي يقول: «هَر بژي كورد وعرب، رمز النضال». في ذلك الوقت، لم أكن أفهم مغزى هذا النشيد، ولم أكن أملك من العمر أو التجربة ما يجعلني أعي عمق الكلمات التي سمعتها مراراً، فقد كانت مجرد كلمات تعبر مسمعي من دون أن أستوعب ما تعنيه حقاً، ومن دون أن يرتبط هذا النشيد في ذاكرتي بقضية أو هدف.
تغير كل شيء ذات يوم حينما كنت مع والدتي في طريقنا من محلتنا «تَيراوة» إلى البازار. وصلنا إلى الموقع الذي كان يعرف بالمحكمة القديمة، ذلك المكان الذي يحتل موقعاً استراتيجياً في المدينة، وقد تم مؤخراً بناء عمارة جليل الخياط أمامه، لتصبح رمزاً من رموز التحضر في منطقتنا. كان المكان يشهد تجمعاً لمجموعة من الشباب يتدربون بحماسة ملفتة، يجسدون عبر حركاتهم وإيقاعاتهم مشهداً يعكس شغفاً وانتماءً، وجعلني أتوقف لأشاهدهم. فجأة، عاد صوت نشيد «هَر بژي كورد وعرب، رمز النضال» ليتردد عبر السماء، يتداخل مع الحركات المتناغمة التي كان الشباب يقدمونها. سحرني المشهد، وسألت والدتي عن هؤلاء الشباب الذين يتدربون بحماسة على إيقاع النشيد.
أجابت والدتي بصوتٍ كان يحمل ما تعرفه من خلفية بسيطة، «يقال إنهم المقاومة الشعبية يا بني. هؤلاء الشباب من جنود الزعيم عبد الكريم قاسم. يقال إنه رجل طيب قام بالثورة، وبعض الناس يقولون إنهم شيوعيون، لكني لا أعرف أكثر من هذا».
مع مرور الأيام والسنين، نضجت وكبرت، وبدأت أفهم أكثر، وازداد اطلاعي على عالم السياسة، والكتابة، والشعر، والصحافة. أدركت حينها أن «هَر بژي كورد وعرب» لم يكن مجرد أغنية عابرة، بل كان نشيداً يحمل في طياته دعوة للوحدة والأخوة بين الشعبين الكوردي والعربي، وقد ولد هذا النشيد عقب ثورة 14 تموز، إذ أراد الشعب، عبر كلماته، التعبير عن أمل جديد وتآخي حقيقي. عرفت لاحقاً أن مغني النشيد هو الفنان أحمد الخليل، وأنه أحد الأسماء البارزة في الوسط الفني الوطني، ممن كرّسوا فنهم للتعبير عن قضايا المجتمع والوحدة.
مرّت السنوات وازداد شغفي بالكتابة والشعر، وانغمست في عالم القراءة، فكان الأدب ملاذي وطريقي لاكتشاف العالم من حولي. كانت تلك الفترة مشبعة بروح التغيير والأمل، حتى جاء إعلان بيان 11 آذار الذي بشر بعودة السلام، واستعادة الشعب الكوردي لحقوقه، وانتشرت فرحة عارمة بين العراقيين؛ كورداً وعرباً، تعبّر عن تطلع الجميع لوطن يسوده العدل. عاد المطرب أحمد الخليل مجدداً إلى الساحة الفنية، حاملاً صوت النضال والأمل عبر نشيده «صلاح الدين قهرمان»، ليغنيها على شاشات التلفاز، ويصل نداءه لكل بيتٍ عراقي.