في قلب مدينة الحسكة، كوردستان سوريا، ولد فنان استثنائي عام 1969 ليرسم بريشته قصة شعب وثقافة. إنه مورازو جاجان، الذي بدأ رحلته الفنية من معهد الفنون في مسقط رأسه، ليواصل دراسته في دمشق، وينطلق بعدها إلى بيروت ومن ثم إلى عالم أوسع.
بيروت، تلك المدينة الساحرة، احتضنت موهبة مورازو لأكثر من عقدين. كانت شوارعها وأزقتها مسرحاً لبدايات فنية متواضعة، حيث وجد نفسه يرسم البورتريهات على الأرصفة ليكسب قوت يومه. يتذكر مورازو تلك الأيام بمزيج من الحنين والفخر قائلاً: «رحلتي الفنية ولدت في لبنان، في هذا البلد الجميل. بيروت كانت عشيقتي».
لم تكن البداية سهلة. واجه مورازو رفضاً متكرراً من قبل صالات العرض، لكن طموحه كان أكبر من أي عقبة. «كان طموحي كبيراً جداً، وكان يدفعني في اتجاه طريق الفن، وفي داخلي فنان لا يُقهر»، يقول بعيون تلمع بالإصرار.
من رصيف بيروت إلى قلب أوروبا
في لحظة فارقة، قرر مورازو أن يأخذ زمام المبادرة. عرض لوحاته على الرصيف، في قلب شارع الحمراء الشهير ببيروت. «عرضت حقيقتي، كنت أنا على الرصيف»، يتذكر بابتسامة. ما لم يتوقعه هو الاهتمام الإعلامي والجماهيري الهائل الذي حظي به معرضه الفريد. «تفاجأت بالصحافة العالمية والعربية والتلفزيونات تحيط بي، وكان هناك جمهور وحشد كبير جداً»، يصف مورازو تلك اللحظة التي حولته من فنان على الرصيف إلى نجم صاعد في عالم الفن.
عندما يلتقي الرسم بالموسيقى
على مدى سنوات، شارك مورازو في أكثر من 30 معرضاً مشتركاً وفردياً، محلياً ودولياً. لكن موهبته لم تقتصر على الرسم فقط. فهو أيضاً ملحن موهوب، قدم أعمالاً لعدد من الفنانين العرب واللبنانيين.
ما يميز أعمال مورازو هو ذلك المزيج الفريد بين الثقافة والتاريخ الكوردي، والحرية في استخدام الألوان، والخيال الواسع. «الفنان الحقيقي لديه خيال. ومن دون خيال لا يصبح فناناً»، يؤكد مورازو. هذا المزيج يترك المشاهد مع العديد من الأسئلة والتأملات.
عن رأي النقاد في أعماله، يقول مورازو بتواضع: «النقاد التشكيليون العرب كانوا دقيقين بالوصف، يدخلون إلى أعماق اللوحة، إلى أعماق الفنان ليروا كل ما في داخله». هذا النقد البناء ساهم في صقل موهبته وتطوير رؤيته الفنية.
يرى مورازو أن الفن التشكيلي الكوردي يسير بخطى ثابتة نحو العالمية. «هناك فنانون لا يُقهرون، يمتلكون إحساساً عالي المستوى ولديهم أسلوبهم الخاص»، يقول مشيداً بزملائه مثل سروان باران وبهرم حاجو وزهير حسيب.
رحلة اكتشاف التراث الكوردي
في عام 2022، انتقل مورازو إلى بولندا، حيث واصل مسيرته الفنية. «أسلوبي الجديد الآن لا يشبه أسلوب أي فنان آخر في العالم»، يقول بفخر، مشيراً إلى مشاركته في معارض ومهرجانات فنية أوروبية حظيت بصدى إيجابي.
وعن علاقة فنه بالتراث والثقافة الكوردية، يعترف مورازو أن رحلة اكتشافه لتاريخ شعبه كانت تدريجية. «في البدايات كنت لا أعرف من التراث غير عيد نوروز وبعض الحكايات»، حسب معرفته حينها، لكن مع تطور وسائل المعرفة والبحث، اكتشف عمق وثراء التاريخ الكوردي، وهو ما انعكس على أعماله الفنية.
هكذا، يستمر مورازو جاجان في رسم قصص شعبه وثقافته، محولاً كل تحدٍ إلى فرصة إبداع، وكل لوحة إلى نافذة على عالم غني بالتاريخ والأمل.
وفي حديثه عن علاقته بالفن، تتألق عينا مورازو بشغف لا يخبو. يصف بدايات رحلته قائلاً: «كان الرسم يجعل إحساسي يطير كالعصافير مع ألوان الزهور الجميلة التي لا يوصف جمالها وألوانها». هذه الكلمات تنقل لنا صورة حية لطفل اكتشف للتو سحر الألوان وقدرتها على إطلاق العنان لخياله.
الفن كصوت للمجتمع
لكن مع نضج موهبته وتطور رؤيته الفنية، بدأ مورازو يدرك الأبعاد الأعمق لفنه. «عندما أصبحت أرسم الأشخاص، أصبحت لدي رسالة. هنا الموضوع اختلف بالنسبة لي»، يشرح بعمق. هذا التحول يعكس نمواً فكرياً وإنسانياً، حيث أصبح الفن أكثر من مجرد متعة شخصية؛ إنه أداة للتعبير عن قضايا إنسانية أعمق.
يؤمن مورازو بقوة أن «الفن هو متعة ورسالة أيضاً، رسالة إنسانية»، هذه الرؤية تتجلى في لوحاته التي تمزج بين الجمال البصري والعمق الفكري. «الرسم هو رسالة بصرية تترجم معاناة المجتمعات»، يضيف، مؤكداً على دور الفنان كمرآة للمجتمع وصوت للذين لا صوت لهم.
وبنظرة شمولية للفن عبر العصور، يرى مورازو أن «الرسم هو حضارة الشعوب في الماضي أو في المستقبل»، هذه الرؤية تضع أعماله في سياق تاريخي وثقافي أوسع، حيث يصبح كل عمل فني جسراً يربط بين الماضي والحاضر والمستقبل.
وفي نهاية المطاف، يرى مورازو أن الفن هو أكثر من مجرد متعة. إنه رحلة اكتشاف للذات وللعالم. «المعاناة تصقل الفنان من الداخل وتطور من فنه. المعاناة هي كنز حقيقي للفنان». وقبل أن ينهي مورازو حديثه معنا، أكد أن الفنان الحقيقي هو من «يجسد الواقع في الخيال، يغوص في الخيال كي يرى المستقبل لهذا الجيل».
ختاماً، يؤكد مورازو على أهمية الفن التشكيلي بقوله: «الرسم هو الثقافة الوحيدة الموجودة». هذه العبارة القوية تعكس إيمانه العميق بقدرة الفن على تجاوز الحواجز اللغوية والثقافية، ليصبح لغة عالمية تخاطب الروح الإنسانية في كل مكان.
هكذا، يواصل مورازو جاجان رحلته الفنية، حاملاً معه تراث شعبه وآمالهم، مترجماً معاناتهم وأحلامهم إلى لوحات تنبض بالحياة والمعنى، مؤكداً في كل خطوة أن الفن ليس مجرد ألوان على قماش، بل هو نبض الإنسانية وصوتها الخالد.
آريان تحسين: صحفي كوردي عمل في مجال الصحافة منذ عام 2006