«جرمو» شاهدة الحضارة الإنسانية
«جرمو» شاهدة الحضارة الإنسانية
January 22, 2025

يزخر إقليم كوردستان بمزيج حضاري فريد يجعله منطلقاً لبواكير استقرار الإنسان وتحضره، فضلاً عن ريادته في مجالات حياتية عديدة، منها الثورة الزراعية، صناعة الفخار وبناء البيوت، وصولاً إلى صناعة أول منجل وأول ملعقة طعام.. وفي هذا الإطار تكتسب قرية (جرمو) في محافظة السليمانية، أهمية تاريخية وحضارية خاصة ومميزة.

مهد بزوغ الحضارة       

يقول عالم الاثار البروفيسور د. كوزاد محمد أحمد، إن قرية (چرمو) تعد من «الشواهد الحية والمهمة على ولادة القرية الأولى من رحم حياة الكهوف والمغاور بل وولادة صناعة الفخار التي تربعت سريعاً على عرش الصناعات المهمة والحرف الحيوية في تاريخ البشر»، ويشير إلى أن القرية «شهدت أيضاً ولادة البيت الأول الذي بني من الطين والسقف الأول الذي صنعه الإنسان لحماية نفسه وأسرته بعد أن عاش لملايين السنين يفترش أرض الكهوف ويحتمي بسقوفها الطبيعية». 

ويوضح عالم الآثار الكوردي، أن جرمو «عرفت أيضاً كيفية توفير الأمن الغذائي لسكانها فأصبح لهم وقت يفكرون في الحياة والوجود فظهرت بوادر الفلسفة وتخيلوا العالم من حولهم عالم البشر وعالم الآلهة كما تخيلوا أن عالم الآلهة مثل عالمهم أناس يعيشون في نظام أسرة كبيرة يرأسها أب عظيم يخضعون له ويستمعون ويطيعون أوامره أناس يفرحون ويمرحون يشربون ويتسامرون وأحيانا يغضبون وهو ما نراه في آداب هذه الأمم فيما بعد هذا وأكثر ظهر وبدأ في جرمو»، ويعد أن قرية جرمو «تشكل النموذج المثالي على الثورة الزراعية وواحدة من أعظم التطورات في تاريخ البشرية وبذلك استحقت لقب الشاهدة الأبدية على انطلاق مسيرة الحضارة». 

بداية الثورة الزراعية

ويواصل د. كوزاد محمد أحمد، أنه «بعد انحسار نطاق الجليد من منطقة الشرق الأدنى نحو الشمال عند نهايات عصر البلايستوسين حدثت تغيرات مناخية أدت بدورها إلى تغييرات جذرية في الغطاء النباتي من هنا اهتدى الإنسان مضطراً للبحث عن مصادر قوت أوفر وأضمن من اللهاث وراء فرائس صعبة المنال وجمع ثمار ربما لا تلبي حاجاته إلى كل العناصر الغذائية خاصة البروتين»، ويلفت إلى أن ذهن الإنسان «تفتق حينها عن اكتشاف الزراعة وتدجين الحيوان فكان من الضروري أن يترك منازله القديمة الكهوف والملاجئ الصخرية ويلازم حقوله وهنا ولدت الحاجة لبناء المنازل ليسكن فيها ومعه حيواناته المدجنة وبذلك تم بناء المنزل الأول في تاريخ الإنسان الذي سكنه على مدار العام وهذه المداومة على السكن على مدار العام هي التي جعلت من جرمو قرية حقيقية لا مخيماً فصلياً».

موقع قرية جرمو وآثارها 

يقول البروفسور كوزاد محمد أحمد إن «ما تم اكتشافه كان من الأهمية بمكان حيث وضع هذا الموقع على الخارطة العالمية وفي الكتب والأبحاث الأكاديمية كأحد أهم وأول القرى الزراعية من العصر الحجري الحديث فتاريخ القرية وتأسيسها يؤشران بدء عصر جديد في تاريخ البشرية وهو عصر إنتاج القوت بدلاً من التقاطه وصيد الفرائس وبذلك استحق بجدارة اسم الثورة الزراعية وهو العصر الذي يعد عصر الخطوات الأولى نحو ولادة الحضارة ونشأة التمدن الخطوات التي لم تتوقف منذئذ وما تزال مستمرة مروراً بعصر الثورة الصناعية التي كانت من ثمار تلك الثورة الزراعية».

عمارة جرمو

وبشأن عمارة جرمو، يقول عالم الاثار الكوردي، إن القرية كانت «تضم حوالى 25 بيتاً يسكنها حوالي 150 شخصاً وقد بنيت بيوت القرية من الطين المضغوط بشكل جيد حيث لم تكن صناعة اللبن والطابوق معروفة في ذلك الوقت وفي مرحلة لاحقة تعلموا بناء أسس البيوت من أحجار جاؤوا بها من قاع النهر المجاور لا بل ورصفوا ساحات وباحات بعض البيوت بالأحجار والحصى لتلافي الطين في المواسم الممطرة»، ويوضح أن مخططات بيوت القرية كنت «مربعة الشكل وليست دائرية كما هو متوقع مقارنة بمواقع أخرى مقاربة لتاريخ جرمو وتم اكتشاف بقايا فتحات الأبواب والشبابيك في بعض البيوت وكانت شبابيك صغيرة لتقليل تدفق الهواء البارد شتاءً وتسهيل إغلاقها بمواد مؤقتة وكانت الأبواب ناصية إذ كان على الداخلين والخارجين منها الانحناء وكانت السقوف والشبابيك والأبواب مصنوعة من القصب أما سقوف البيوت فكانت تستعمل نفس تقنية بيوت القرى الكوردية إلى زمن حديث حيث تغطى بالأغصان ثم أغصان أصغر تحمل الأوراق أو بالحصران وفوقها طبقة من الطين». 

طبقات القرية وظهور الفخار

 ويمضي د. كوزاد أحمد محمد، قائلاً إنه وكأي موقع أثري آخر من الشرق الأدنى «تتكون قرية جرمو من عدة طبقات أثرية هي الطبقات التي تعود كل واحدة منها إلى عصر من العصور التي مرت عليها»، ويضيف أن المنقبين «اكتشفوا 16 طبقة أثرية في جرمو والملفت للنظر أن الطبقات الأحد عشر السفلية أي الأقدم كانت خالية من الفخار لكن أهل جرمو اهتدوا إلى صناعة الآنية الفخارية في المراحل الأخيرة من عمر القرية لذلك وجد الفخار في الطبقات الخمس العليا فقط ما يعني أن صناعة الفخار كانت من ابتكارات أهل جرمو لا بل أنهم بدأوا بتزيينها ببعض الزخارف المرسومة بالألوان التي تعد من أوائل الفخاريات الملونة».

مبتكرات زراعية وحياتية

وبشأن الزراعة، يقول د. كوزاد أحمد محمد، إن سكان جرمو «زرعوا بعض المحاصيل المهمة فقد عثر على حبوب الشعير والحنطة والعدس والباقلاء بعضها متفحمة في قيعان بعض الجرار الفخارية وبعضها على شكل طبعات في الطين»، ويواصل أن من الابداعات التي أبهرت الآثاريين في جرمو «العثور على منجل مصنوع من قطع من أحجار الصوان المصنوعة على شكل شفرات حادة مثبتة بالقار على مقبض خشبي ما يعد أقدم منجل معقوف يشابه المناجل الحديثة كما صنعوا آنية أخرى لفرك سنابل الشعير بها وفصلها عن السيقان والسنابل كذلك الهاونات الحجرية لطحن الحبوب والمواقد للطبخ ولخبز الأرغفة لا بل اكتشفت بعثة يابانية مؤخراً خلال بعض الحفريات المحدودة النطاق على أقدم ملعقة منحوتة من الحجر». 

بيبلوغرافيا

يذكر أن د. كوزاد محمد أحمد، حاصل على شهادة البكالوريوس، والماجستير بالآثار القديمة من كلية الآداب جامعة بغداد، وماجستير ثانية والدكتوراه من جامعة لايدن (leiden) الهولندية، وعمل تدريسياً في جامعة السليمانية ومن ثم رأس قسم الآثار فيها، قبل أن يعين عميداً لكلية الفنون الجميلة بالجامعة.. وله بحوث منشورة محلياً وعالمياً، وألف كتابين وله مشاركات علمية عدة.


باسل الخطيب: صحفي عراقي






X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved