«الزلمي» فقيه تخلى عن المناصب من أجل قومه
«الزلمي» فقيه تخلى عن المناصب من أجل قومه
January 24, 2025

من المعروف في الأدبیات الإسلامیة أن «اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»، أي أن التجدید سمة المجتمع البشري عامة والإسلامي خاصة؛ فلن یبقى المجتمع على وتیرة واحدة؛ بل یلازمه التطور في كل ظرف وزمان؛ وإلا یتوقف العمران، ویتعطل النظر والفكر لفهم حكمة الخلق الإلهی. وإن نظرة عمیقة للتاریخ الإسلامي تكشف فعلاً أن الاجتهاد الإسلامي لم یتوقف على نمط معین؛ بل قد نجد أن مجتهداً معیناً كبیراً قد غیر مذهبه حین انتقل من بغداد إلى مصر كالإمام الشافعي. ومعنى ذلك أن الإسلام یتماشى مع التطور ویحارب الجمود والتطرف، ویسمح بتغیر الأحكام مع تغیر الظروف والأزمان.

والعلامة مصطفى الزلمي الذي تم قبل أیام في أربیل احتفال مهیب بالذكرى المئویة لتولده، حضره السید نیچیرفان بارزاني رئیس إقلیم كوردستان. ووفد عال من الأزهر الشریف یتقدمهم رئیس هیئة كبار علماء الأزهر الدكتور عباس شومان، والسید رئیس جامعة الأزهر، وجمع غفیر من قادة السیاسة والفكر والدین في كوردستان، لجدیر (أي الزلمي) بأن یُعدَّ من المجددین لهذا العصر. ذلك أنه قد نجح في إبداع منهج جدید، منفتح لفهم علوم الشرع والقانون، یسایر تطورات الحیاة، ویفتح أبواب الاجتهاد على مصراعیه من دون أن یتعارض أو یصطدم مع الثوابت والقطعیات والأعراف. فهو العلامة المفضال الجامع بین المعقول والمنقول وبین الشرع والقانون.

وإذا كان متأخرونا من الفقهاء یرون ویفتون استناداً إلى عبارات الفقهاء المعروفین الذین یُستأنس بآرائهم، فإن العلامة الزلمي كان یستند، فیما یراه ویجتهد، إلى المنبع الأساس للشریعة الإسلامیة وهو الكتاب الكریم الذي لا ریب فیه. وكانت تحقیقاته منیعة عن الرد؛ لأنها كانت قائمة على خلفیة عمیقة من العلم، وملكة راسخة في علوم الآلة كالنحو والصرف والوضع وعلوم البلاغة التي تضم المعاني والبیان والبدیع، ومن خبرة غنیة في التدریس والتألیف والبحث المضني عن الحقائق. وما كان یلحقه أحد من معاصریه في جدلیات علم المنطق، فقد ارتقى كأساتذته العلامة عبد الكریم المدرس والملا باقر البالكي والملا محمد الگلالي الملقب بـ«الرئیس» إلى مستوى كبار المناطقة كالعلامة الكلنبوي والخیالي والفناری. فلم یكن عنده النص مجرد مسند ومسند إلیه أو مبتدأ وخبر أو ذات وصفة وما یعتري مواقعها في الجملة من دلالات بلاغیة في التقدیم أو التأخیر؛ بل كان یلتفت أیضاً عند تحلیله للنص إلى المقولات التسع أو العشر، ومدى التنسیق بشأنها.

وبعد تبحره في هذه العلوم، وقد بلغ الأربعین من عمره، توجه إلى الدراسات الأكادیمیة في العلوم القانونیة؛ حتى نال أعلى الشهادات (الدكتوراه) وبأعلى الدرجات في الأزهر الشریف وفي جامعة بغداد، ثم تفرغ للتدریس الجامعي وتألیف الكتب المنهجیة وغیر المنهجیة حتى تجاوز الخمسین.

فلا عجب إذ یندهش العلامة القانوني الأستاذ حسن الذنون، قرین السنهوري في العراق، بعد زمالته له في التدریس حین یقول عند تقدیم كتاب له «كنت أظن أن عصر فقهائنا الكبار قد انقضى منذ زمن بعید، وأصبح مجرد ذكریات، فإذا بي أرى أحدهم، یعیش بین ظهرانینا، یحادثنا ونحادثه ونسأله فیفیض علینا علمه وادبه». ویقول أیضاً «تفضل الأستاذ الجلیل الدكتور الزلمي، فقدم لي نسخة من مؤلفه القیم - التبیان لرفع غموض النسخ في القرآن - فبدأت بدراسته فإذا بي وجهاً لوجه أمام عالم مدقق مجتهد وضع نصب عینیه الدفاع عن الإسلام وتنزیه كلام الله من التناقض واللغو». 

هذا جانب علمي من هذه الشخصیة.. أما الجانب العملي والسياسي، فله حكایات تتسم بالشجاعة والجسارة، نذكر بعضاً منها، وقد كان لي شرف مرافقته وزمالته أكثر من ثلاثین عاماً في بغداد.

1) كان یسعى بجد لكسر القیود والمعوقات التي تحول دون حریة طلبة العلم في حجرات كوردستان؛ حتى أنه أول عالم مجاز أدخل السبورة في المسجد لتعلیمهم المسائل الضروریة في الأعمال الأربعة. وكان یقصد الجمع بین دراسات الحجرة والدراسة الأكادیمیة. ولكن زملاءه رفضوه واتهموه بالزندقة حتى أجبروه على مغادرة السلیمانیة إلى بغداد.

2) في عام 1955 عُیِّن إماماً في الجیش بدرجة ضابط، وقد عمل في فوج عبد السلام عارف الذي أعجب بفضل هذا الإنسان وعلمه، ومن خلال اطلاعه على خلفیته عرف أنه إنسان صادق وجسور. ولهذا كان من النوادر الذین فاتحهم عبد السلام بما هم مقدمون علیه من الثورة التي قامت في 14 تموز 1958، وكان له (أي للزلمي) دور كبیر في نجاح الثورة. وعند سفر عبد السلام إلى السلیمانیة رافقه الزلمي وبابا علي الحفید، فكان المفروض أن یصبح الزلمي أحد وزراء الثورة، لكنه ظل یعاكس عبد السلام لعنصریته وكراهیته للمسألة الكوردیة، فحصلت قطیعة بینهما.

3) في ظرف دموي مخیف، حیث تمكن البعثیون من الحكم، وفي عام 1963 استعدوا لحملة إبادة شاملة بتعاون الجیشین العراقي والسوري والبدو الذین نهبوا أموال الكورد من الأغنام وغیرها، حتى أن المتدینین من أهالي الموصل رفضوا أكل لحوم الأغنام لمدة طویلة خشیة أن تكون من الأموال الكوردیة المغصوبة. وقد علمت القیادة الكوردیة أن العراق أقنع المرجع الشیعي الأعلى محسن الحكیم بإصدار فتوى لمحاربتهم بحجة أنهم شیوعیون. في هذا الظرف الخطیر، كلف الملازم مصطفی، ممثل عن الحزب الدیمقراطي الكوردستاني، الأستاذ مصطفى الزلمي مع اثنین آخرین من رفاقه أئمة الجیش بإیصال رسالة شفهیة من القائد الملا مصطفى البارزاني یناشده التدخل لإیقاف هذه الحملة الظالمة. وقد استطاع الوفد إقناع المرجع الأعلى بأن اتهام الحركة الكوردیة بالشیوعیة مجرد بهتان، وأن الكورد مسلمون مسالمون. فرحب السید بالوفد، وقال حسناً فعلتم أنكم جئتم، وسأعمل على تحریم قتالكم، وقد فعل. وقد كنت أنا (كاتب هذه السطور) والزمیل الشهید محمد علي الملا محمد الملقب بـ«الرئیس» ضمن هذا الوفد مع الراحل الزلمي. وكان أخطر عملیة أمنیة قمنا به في حیاتنا. لكنها تمّت بسلام والحمد لله.‌‌


د. محمد شريف: كاتب ومفكر كوردي مختص في فلسفة القانون 


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved