مكان غريب! وصلناه بعد رحلة متعبة يوم 3/1/1974: فندق من الدرجة الأولى وقع فجأة وسط ساحة معركة، مطوّق تماماً بحواجز عسكرية وقوات أمنية، ليس فيه نزلاء غيرنا. في سردابه أسرى كورد يوشكون على الموت جوعاً، وعلى سطحه وشرفاته جنود خائفون أصابعهم على الأزندة. أغلب عمال الفندق التحقوا بـ«العصاة» وحملوا معهم معدات الفندق. الأفرشة بدون شراشف وأغطية ويصعب العثورعلى قدح لشرب الماء. الغبار يعلو كل شيء، ويتردد صدى أصواتنا في الممرات فتفزعنا نبرتنا المرتعشة. مدير الفندق بقي كما هو أيام السلام، ببدلته الرسمية خلف طاولته. سألته: «أين نأكل؟». بغمغمة جزعة وبإشارة من يده فهمت جوابه «في السطح!».
صعدت السلالم لأن المصعد معطّل. فإذا بالجنود افترشوا الأرض مع أسلحتهم، وحول عيونهم هالات سود من قلة النوم والشعور الدائم بالشؤم. على سطح الفندق وبعض شرفاته أقاموا ربايا للسيطرة على المدينة من فوقها. تعشيت معهم في قصعة. أسمع صوت اللقمة وهي تنزل في بلعوم جاف.
أي عابر سيتعرض للرماية إما من الجيش، وإما من الفرسان أو كمائن العصاة... إذا لم يقتله أحد فسيقتله الله.
المتحدث ستّار جندي من مدينة العمارة أسمر وجهه يشبه وجه حصان تتوسطه عينان لا تستقرّان. يتكلم بلهجة تجمع الخوف والجزع. يأخذني إلى حافّة السطح ويحذّرني من أن أمدّ رأسي أكثر مما ينبغي لأتحاشى رصاصة قنّاص: «قبل الغروب بقليل ينزل العصاة من الجبل ويتسللون إلى أزقة المدينة».
بدأ الغروب برشقات رصاص متقطعة تتردد في سفح جبل زوزك. في السادسة مساء بدأ منع التجول. الصمت خيّم على المدينة وخلت طرقها من المارّة. سكون مشحون بالتوقعات:
يتسللون في الليل بحرية ويحتلون المدينة، ينفذون مهامهم ثم ينسحبون. وقد صدرت لربايا الجيش أوامر مشددة بعدم مغادرة مواقعهم عند إطلاق النار لأن الكمائن في كل مكان.
«هذه مدينتهم»، قال ستّار وهو يبلع ريقه الجاف، «نحن هنا غرباء».
الناس يمارسون حياتهم في حدود بيوتهم بشجاعة ولكن بهدوء وصبر، وهناك بيوت تفتح أبوابها للمتسللين مساءً لتصبح قواعد انطلاقهم. الذين يمارسون أعمالاً عادية خلال النهار يقومون بتنفيذ العمليات العسكرية خلال الليل.
غربتي غربتين. بين الاثنين أنا أعزل. لست مهاجماً ولا مدافعاً.. وهذا يحرمني من الفعالية التي تفتت الخوف. مكبّل بهذ الجسد الممدد على سطح الفندق. الجنود حولي تخلّوا عن إرادتهم وتحوّلوا إلى منفذي أوامر. الأفعال ناقصة ومبتورة، بينما يتحرك العصاة حولهم بحرية. الحصار يضيق يوماً بعد يوم فيخنقهم الخوف. ستار قال لي بهمس واضح. وممدود: «سيولد ابني يتيماً».
لا يولد الخوف هنا من خيال، إنما من وقائع. فقبل أيام دخل رفاقهم سوقاً شعبياً ولم يخرجوا منه. ذابوا في ثنايا السوق وبضائعه، وأبيد كمين كامل بالسكاكين. وغالباً ما تنطلق قذيفة محرقة من مكان قريب. بقينا على السطح فترة طويلة وكان مرافقنا يشير باستمرار الى أماكن تجمعهم وقد شاهدنا تحركات مفارزهم في قمة الجبل. كل هذه الجبال السود المحيطة بالمدينة، والتي تبدو في الليل كأنها تزحف وتضيق الخناق، هي مسرح حركاتهم. يتجولون فيها بحرية ويراقبون من قممها المدينة المفروشة تحتهم كخارطة على منضدة.
أطفئت أضوية الفندق تماماً. لن تمر الليلة بسلام، هكذا تقول خبرة الجنود، لأن ليلة البارحة كانت هادئة. الهدوء يعني أنهم يحضّرون شيئاً. بعد قليل بدأت رشاشات خفيفة ومتباعدة، ناشزة وخاطئة ثم بدأت الرماية تتكثف. وفي الشارع المقطوع الذي يقع فيه فندقنا نسمع إيعازاً مستمراً:
«قف»
بدأت الرماية تضغط وتقترب. اقتربت من النافذة، حذرني الحارس النائم على الأرض:
«سيرونك»
رأيت ومضات الرماية لثانية واحدة. بعد ذلك بدأت رماية بالهاونات. موتنا رهين بدقة التصويب... سيزحفون كلهم الليلة ويطبقون على المدينة. هكذا يقول الخوف الناجم عن الجهل بمصادر القتال وقواه. أسمع أحذية الجنود داخل الفندق يصعدون ليرصدوا مصادر الرماية أو ليأخذوا مواقعهم على الأرض والمجنزرات تخطر ذهاباً وإياباً في الشارع المجاور.
نمت مع مخاوفي على الأرض ومع أحلام متقطعة.. أبواب تفتح وتغلق من دون أن يدخل أو يخرج أحد. أناس يصعدون السلالم بسرعة، اسمع وقع بساطيرهم ولا أراهم، واحد منهم هزني بعنف:
«اترك السرير ونم على الأرض».
سمعت أسنان النائم بجانبي تصطك من الخوف وقال إنه محموم.
استيقظت على صوت الرماية. ضوء النهار يملأ المدينة، وهذا يشعرني بالأمان. كل ما هو مميت أصبح مرئياً، فالظلمة تجعل الموت لغزاً. ارتدينا ملابسنا ونزلنا الى قاعة الفندق. رأينا الحراس وقد أجهدهم السهر في قاعة الاستقبال مع مدافعهم ورشاشاتهم. خرجنا الى المدينة لتناول فطورنا، تجولنا بالسيارات. أهي المدينة نفسها التي رأيناها ليلة البارحة، مدينة واضحة ومكشوفة لنا. الشوارع والأسواق تدعونا لأن نفلت من طوق الحراسة لنمشي مثل أي مواطنين عابرين. لكن حراسنا الذين يحيطون بنا أخبرونا بأن لا نبتعد كثيراً عن هذه الساحة المركزية لأن غالبية أصحاب هذه المتاجر يتعاونون مع العصاة ويرصدون لهم. نسير مع حراسنا كتلة متراصّة. قد تبتلع هذه الأسواق البهيجة من يبتعد كثيراً عن المجموعة... رغم ذلك كنت مطمئناً إلى هذا النهار وحركة السوق العادية. اشتريت ومرحت مع الباعة المشغولين بزبائن آخرين.
ما أن غادرنا المدينة حتى حوصرنا في قاطع عسكري. كانت المدفعية تدوي حولنا من ربايا الجيش ومن مواقع العصاة العالية. احتمينا تحت قنطرة إسمنتية. بعد أن توقفت الرماية واصلنا سيرنا في طريق مليء بالمنحنيات والمطبات... كانوا على يسارنا والجيش على يميننا. ولكننا كنا سعداء، لقد نجونا من هذه المدينة الفخ.
زهير الجزائري: كاتب وروائي عراقي