تمتد الخطوات بين أحياء ومناطق يسكنها الكورد منذ مئات السنين في العاصمة العراقية بغداد أو كما كانوا يسمونها من قبل (باغ – داد)، كاسم مركب يعني لدى الكورد «بستان العطاء».
وكانت بغداد جزءاً مهماً من مملكة «كردونيا» الكوردية التي أسسها الكورد الكاشيون، وهم من بنوا قرب بغداد زقورتهم الشهيرة التي تُسمی اليوم زقورة «عقركوف».
ويوجد في بغداد، بحسب مؤرخين وباحثين، «أكثر من مليون ونصف المليون كوردي. إذ أن تاريخ وجود الكورد فيها يعود إلى ما قبل العهد العباسي. بل إن بناء أسوار المدينة من قبل الخليفة العباسي المنصور (عام 145 هجري / 762 ميلادي)، كان علی يد معماريين وعمال البناء الكورد، وظل لهم دور رئيسي في بناء أبنية بغداد.
كانت في بغداد في القرن الحادي عشر الميلادي حي باسم «محلة الأكراد» الواقعة في وسط العاصمة، ويمتد هذا الحي أو المحلة من باب الشيخ إلى شارع شيخ عمر، وكان سكان هذه المناطق ذات الغالبية الكوردية. أما في شارع الكفاح ففيها محلة باسم «عگد الأكراد» تقع في غرب وشمال غرب مسجد ومرقد الشيخ عبد القادر الگيلاني وينتهي المحلة بالمسجد.
وتشير الكاتبة الفيلية الكوردية المعروفة أسماء محمد مصطفى في حديث لـ«كوردستان بالعربي» إلى أن عگد الأكراد «كان ذا غالبية كوردية فيلية، وقد سكن فيه كذلك كورد من مناطق أخرى من كوردستان ومندلي وخانقين وعرب، تعاملوا مع بعضهم البعض برقي واحترام وتعايشوا كأسرة واحدة، يقف بعضهم إلى جانب البعض في الأفراح والأحزان، فقد كان العگد مثالاً للتعايش والتنوع الثقافي. وهذا يجعل استعادة أيام الطفولة هناك نوعاً من السفر إلى أجمل الأحلام التي أرى فيها نفسي تتجه من الدربونة التي فيها بيتنا إلى الشارع العام».
ويصحح لنا رجل مسن يُدعى أبو كرار وهو من سكنة حي الأكراد في شارع الكفاح، إذ يقول «حي الأكراد وعگد الأكراد ليسا الوحيدين في العاصمة تسكنهما غالبية كوردية. بل إن0 هناك في الطرف الشرقي من ساحة الميدان الواقعة عند وزارة الدفاع شرقاً، وكذلك شرقي باب المعظم ويطل بالدور السكنية على شارع الجمهورية من الشمال الشرقي وليس بينه وبين الميدان سوى هذا الشارع ويسمى حتى الآن بـ«تبه الأكراد».
ويقول لـ«كوردستان بالعربي» إن محلة (تبه الأكراد) التي كانت تقع بين الميدان والبارودية سميت بهذا الاسم لأن سكانها من العوائل الكوردية منذ منتصف القرن التاسع عشر (1850 ميلادي) وكانت المحلة تضم أيضاً عگد باسم عگد الكورد وكذلك محلة (الدسابيل) التي كانت تقع بين المحلتين رأس الساقية وقهوة شكر وكانت تسكنها عوائل من الكورد الفيليين، كما كان فيها مسجد باسم (مسجد الدسابيل) محتها النظام السابق (نظام البعث) من على خريطة بغداد».
وأضاف أبو كرار أنه «توجد في بغداد (عگد أو دربونة) يمتد من شارع الفضل الواصل بين شارع الخلفاء ومحلة الفضل وهو قريب من (تبه الأكراد) ويعرف بـ(دربونة الجلالي) نسبة إلى الجلالية من القبائل الكوردية القديمة».
ويؤكد أن «الفيليين عاشوا حياة حافلة بالعطاء والمآسي على السواء، ابتدأت مآسيهم بالتهجير إبان حكم الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر بين عامي 1970 و1975، ومن بعده الرئيس السابق صدام حسين عام 1980، بحجج عديدة منها أنهم ينحدرون أصلاً من إيران، فتم إسقاط جنسيتهم».
ومن منطقة الشورجة التي تعد مركزاً اقتصادياً مهماً داخل العاصمة بغداد يؤكد غالبية من يعمل فيها «أن الكورد سكنوا العاصمة بغداد منذ فترات بعيدة وكانوا جزءاً مهماً من مكوناتها الاجتماعية وحركتها الاقتصادية والعمرانية والتجارية، وأن المطلعين العارفين بتاريخ بغداد وسكانها يقدر نسبة الكورد فيها بما لا يقل عن ربع أو خمس سكانها. فإنه حتی في عصر الاحتلال العثماني كان يوجد في بغداد نحو مليون ونصف المليون كوردي، وأن عدداً كبيراً من تجار الشورجة هم من أصول كوردية عملوا داخل السوق الكبير وكانت لهم تجارة داخل العراق وخارجها».
وتشير كتب التاريخ إلى أن أهم القبائل التي سكنت بغداد وبقيت امتدادها لحد الآن هي عشيرة أركوازي، من قبيلة فيلي، وعشيرة سورميري، من قبيلة فيلي وقبيلة كاكائي وقبيلة جاف، وعشيرة باجلان ـ من قبيلة لك وقبيلة دلو وعشيرة ملك شاهي ـ من قبيلة فيلي وعشيرة زهاوي ـ من قبيلة كلهور وعشيرة قٓره لوس ـ من قبيلة كلهور وعشائر ٲخری .
وظهرت أسماء لامعة من بين الكورد الفيلية في الحركة الوطنية العراقية. فتاريخ العراق السياسي يشير إلى أنه كان لهم دور كبير في تأسيس الحركات الوطنية العراقية، حيث كان حيهم (عگد الأكراد) معقلاً للحركة الوطنية تلك وتحصن الثوار المقاومون في بيوت هذه الطائفة الشريفة والمخلصة إثر البيان التاريخي للحزب الشيوعي الذي صدر ضد الانقلاب المتضمن الدعوة لحمل السلاح ضد المؤامرة البعثية الرجعية، دفاعاً عن ثورة تموز 1958.
وحارب نظام البعث المجرم الكورد الفيلية بحجج واهية مثل اعتبارهم حلقة وصل بين إقليم كوردستان شمال العراق والأحزاب الشيعية العربية لأنهم كورد القومية وشيعة المذهب. كان التجار من الكورد الفيليين يدعمون حركات التحرر بالمال والسلاح، والنظام أقدم على القيام بعمليات تهجير لكل من رفض إطاعته أو شكلوا حسب رأيهم خطراً عليه من كل أبناء العراق الشرفاء. وهم قاوموا بشجاعة الانقلاب البعثي الدموي عام 1963 في 8 شباط الاسود من خلال معارك (شارع الكفاح – وعگد الأكراد) إلى جانب العديد من مناطق العراق الأخرى.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن منطقة الصدرية التي يسكن معظمها الكورد الفيليون في مركز بغداد أيضاً، هي في الأصل محلتان اندمجتا ولا تكاد توجد حدود فاصلةَ لهما في الوقت الحاضر حتى أصبحتا محلةَ واحدة تقع بين محلات الهيتاويين وصبابيغ الآل والحاج فتحي ورأس الساقية وباب الشيخ. وهذه المحلة كانت تعد في العصر العباسي القسم الأخير من محلة المأمونية ومقبرتها التي كانت تعرف بمقبرة الزرادين نسبةَ لصانعي الزرود (الدروع) التي تلبس في القتال، بحسب المصادر التي تشير إلى أن «الصدرية» عرفت بهذا الاسم نسبة لدفينها الشيخ صدر الدين محمد بن محمد الهروي المدرس في المدرسة البشيرية والمتوفى سنة 677 للهجرة.
ومن أبرز معالم محلة الصدرية جامع سراج الدين وكان فيه مدرسة تدرس فيها العلوم العقلية والنقلية. ولهذا الجامع رواق رائع البناء وأمام ذلك الرواق ساحة صغيرة تضم ضريح الشيخ سراج الدين. وأول عمارة معروفة له جرت سنة 1131 للهجرة بأمر والي بغداد الوزير حسن باشا. وقد أنشئ عنده سقاية يصل إليها الماء عن طريق قناة عالية مبنية على العقود يرفع إليها الماء من كرد (دولاب) يصب عند شاطئ دجلة في شريعة السيد سلطان علي ومازال الجامع عامراً وأعيد بناؤه على هيئة جديدة في سبعينات القرن الماضي والسنوات اللاحقة، بحسب المصادر.
هدى جاسم: صحفية عراقية