على مدار العقد الماضي ولحد الآن، أخفقت قوانين الموازنة العراقية عن معالجة القضايا العالقة بين بغداد وإقليم كوردستان، لا سيما المتعلقة بالنفط والإيرادات وتوزيع حصة الموازنة. وغالباً ما عُزيت أسباب هذا الإخفاق إلى عدم التزام كل من بغداد والإقليم، وبالأخص إقليم كوردستان، بتنفيذ تلك القوانين. إلا أن هذا الطرح لا يقدم الصورة الكاملة والحقیقية کلها؛ فالمشكلة الرئيسية تكمن في القوانين ذاتها، التي صيغت بطريقة لا تجعل تنفيذها مستحيلاً فحسب، بل تحولها إلى عقبة أمام التوصل إلى اتفاقات، لتصبح بحد ذاتها مصدر تأزيم إضافي.
وسنحاول تناول هذا الموضوع بالتفصيل في مقال آخر، لكننا سنركز الآن هنا على مشكلة الرواتب الحالية للإقليم، خاصة في ضوء قرار المحكمة الاتحادية الأخیر. هذا القرار، مع الأسف، يحمل في طياته العديد من الإشكاليات التي تتضمنها قوانين الموازنة؛ فهو ليس فقط صعب التطبيق، بل إنه فشل في تقديم حل عملي وجذري للأزمة، وفتح المجال أمام فرص سوء الاستخدام أثناء عملية التنفيذ.
قرار المحكمة الاتحادية حقيبة معقدة ومليئة بالتناقضات
ان القرار الأخير للمحكمة الاتحادية بشأن الرواتب في إقليم كردستان هو بحد ذاته دليل على وجود خلل جوهري في قوانين الموازنة. حیث لم يقتصر القرار على تفسير تلك القوانين أو الفصل في دستوريتها، بل تجاوز ذلك بإصدار أحكام مغايرة لما نصت عليه قوانين الموازنة ذاتها. ومع ذلك، يواجه القرار مشكلة أساسية، تتمثل في احتوائه على تناقضات تجعل تنفيذه حرفیا أمراً عسيراً، تماماً كما هو الحال مع قوانين الموازنة نفسها.
على مدى السنوات العشر الماضية، كانت المشكلة الرئيسية هي عدم وجود تمويل كاف لرواتب الموظفين، وليس آلية التسليم أو التوزيع أو كيفية دفع رواتب للموظفين. ومع ذلك، لم يركز قرار المحكمة الاتحادية على معالجة أزمة التمويل بشكل جذري، بل انشغل بشكل مفرط بقضايا أخرى لم تكن جوهر المشكلة.
من الجوانب الإيجابية في قرار المحكمة أنه يؤكد على ضرورة حصول موظفي حكومة إقليم كوردستان من مدنيين و عسكريين و متقاعدين و مستفيدين من شبكة الحماية الاجتماعية على رواتبهم الشهرية في الوقت المحدد، أسوة بنظرائهم في باقي العراق. وأشار إلى أن الخلافات بين إقليم كوردستان وبغداد بشأن ملف النفط والإيرادات غير النفطية، كما ورد في النقاط الأربع للفقرة الثانية من المادة 12 في قانون الموازنة الثلاثية، يجب أن لا تكون سبباً في تأخير صرف الرواتب أو حرمان الموظفين منها.
ومع ذلك، تبرز في القرار عدة جمل وعبارات متضاربة، يمكن تفسيرها بطرق مختلفة أو استخدامها بشكل انتقائي، ما يُبقي المشكلة من دون حل جذري. فعلى سبيل المثال، ينص القرار على أن وزارة المالية الاتحادیة ستتولى دفع رواتب موظفي حكومة إقليم كوردستان عبر آلية التوطين، وتُخصم تلك الرواتب من حصة الإقليم وفق قانون الموازنة. ولهذا الغرض أتاح القرار للدوائر الرئيسية والفرعية في حكومة إقليم كردستان التنسيق مباشرة مع وزارة المالية الاتحادية دون الرجوع إلى ممثلية إقليم كردستان. كما أکد القرار على أن تلتزم حكومة إقليم كوردستان بتقديم ميزان المراجعة الشهرية إلى وزارة المالية الاتحادية، مرفقة بطلب التمويل، في الوقت المحدد.
لكن هنا تكمن المفارقة؛ إذ تتعارض عبارات مثل «حصة الإقليم وفق قانون الموازنة»، و«طلب التمويل»، و«تقديم ميزان المراجعة الشهرية»، مع مبدأ صرف الرواتب مباشرة من قبل وزارة المالية الاتحادية.
وبحسب قانون الموازنة، فإن ما يُعرف بـ«حصة الإقليم» ينقسم إلى قسمين: الأول يتضمن النفقات الحاكمة، وهي تُصرف مباشرة من قبل الحكومة الاتحادية ولا تُدرج ضمن حساب حكومة إقليم كوردستان، وبالتالي لا تتطلب تقديم تقرير ميزان المراجعة الشهرية. أما القسم الثاني، فهو الحصة الاعتيادية للإقليم، التي تُحتسب بعد استثناء النفقات السيادية والنفقات الحاكمة، (بينما لا تتضمن النفقات السيادية حصة خاصة بالإقليم كما هو الحال في النفقات الحاكمة).
تتميز الحصة الاعتيادية لإقليم كوردستان بأنها تودع في حساب حكومة الإقليم، ويكون لرئيس الوزراء أو من يخوله صلاحية الإنفاق عليها، وفق ما نصت عليه النقطة (ب) من الفقرة أولا في المادة 13 من قانون الموازنة. لذلك، عندما يشير قرار المحكمة الاتحادية إلى حصة الإقليم وقانون الموازنة، يجب مراعاة هذه النقطة التي تتعارض مع صرف الرواتب مباشرة من قبل بغداد، لا سيما مع اشتراط تقديم قوائم رواتب الموظفين و المتقاعدين و المشمولين بالرعاية الاجتماعية وإجراء عمليات تدقيق و صرفها…الخ.
من جهة أخرى، إذا كانت وزارة المالية الاتحادية هي من تدفع رواتب موظفي الإقليم عبر الحسابات المصرفية للموظفين مباشرة، يصبح من غير المنطقي المطالبة بتقرير ميزان المراجعة الشهرية المرتبطة بحساب الراتب. ذلك لأن هذه الآلية لا تتضمن تحويل أي مبالغ مالية إلى حساب حكومة إقليم كوردستان وبذلك لن تكون هناك أي عملية الإنفاق من جانب حكومة الإقليم في حساب الرواتب أيضاً، مما يجعل إعداد وتقديم ميزان المراجعة الشهرية لحساب الرواتب أمراً غير ذي صلة وغير قابل للتطبيق.
وقد أكد قرار المحكمة مراراً وتكراراً على ضرورة تحقيق العدالة والمساواة في توزيع الرواتب، وضمان حصول موظفي إقليم كردستان على رواتبهم الشهرية في موعدها، أسوة بموظفي باقي مناطق العراق، إلا أن ربط صرف الرواتب بحصة الإقليم من الموازنة وبقانون الموازنة دون رفع القيود الواردة فيه يتناقض مع هذا الهدف، حيث أن قانون الموازنة بصيغته الحالية قيد حصة الإقليم بمجموعة من القيود، ولم يرفع قرار المحكمة هذه القيود بشكل كامل وصريح.
وبحسب الفقرة الثانية من المادة 11 من قانون الموازنة الثلاثية، فإن حصة الإقليم تُصرف على أساس الإنفاق الفعلي. لكن قرار المحكمة لم يعالج هذا الشرط، ما قد يفتح المجال أمام بغداد لاستغلاله عبر إرسال مبالغ أقل من المخصص للإقليم في قانون الموازنة تحت ذريعة الإنفاق الفعلي.
مشكلة رواتب الربع الأخير من 2024
رغم الثغرات والقصور في القوانين والقرارات المتعلقة بالموازنة والرواتب، يضاف إلى ذلك معضلة التنفيذ، التي تشكل عقبة إضافية تتكرر في جميع المراحل. فحتى منتصف كانون الأول لم يتم صرف رواتب موظفي إقليم كوردستان لشهر تشرين الأول، في حين تبرر بغداد هذا التأخير، منذ أكثر من شهر، بنفاد الحصة المخصصة لرواتب الإقليم وفق قانون الموازنة.
صرحت وزيرة المالية العراقية بأن تخصيصات رواتب إقليم كوردستان استنفدت بالفعل، وأكد رئيس الوزراء في البرلمان أن تخصيصات الرواتب للإقليم بقيت منها 760 مليار دينار فقط. وأضاف أن الإقليم لم يلتزم بقانون الموازنة، ما يحرمها من نصيبها في الأجزاء الأخرى من الحصة المقررة، كما أنه لا يتم إجراء المناقلة.
لكن جداول قانون الموازنة المتعلقة بتخصيصات حصة الإقليم، وجداول تقارير الوزارة المالية الاتحادية بشأن الصرف الفعلي حتى نهاية أیلول، تكشف تناقضاً واضحاً مع هذه الادعاءات. وحتى إذا تم التعامل مع إقليم كوردستان على أساس الإنفاق الفعلي، فإن الأرقام تشير إلى أن الإقليم لا يزال يمتلك تخصيصات كافية لتغطية الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام.
وبحسب الجداول وقانون الموازنة العراقية لعام 2024، فإن حصة إقليم كوردستان من تخصيصات الرواتب في كلا الفصلين (تعويضات الموظفين والرعاية الاجتماعية) تتجاوز 11 تريليوناً و576 مليار دينار. ووفقاً لتقارير وزارة المالية العراقية، وحتى نهاية أیلول من العام ذاته، لم يتم إنفاق سوى حوالي 7 تريليونات و800 مليار دينار من هذه التخصيصات للاقليم.
في البداية، بررت بغداد عدم صرف الرواتب بادعاء استنفاد تخصيصات الرواتب، مستندة إلى أن قانون الموازنة يشترط التعامل مع دفع الرواتب وفقاً للإنفاق الفعلي. ولكن، وفقاً لتقارير وزارة المالية الاتحادية، بلغ نسبة الإنفاق الفعلي على الرواتب بشقيها (التعويضات الموظفين والرعاية الاجتماعية) حتى نهاية أیلول 92.3%. حيث ان اجمالي تخصيصات الرواتب للعراق لسنة 2024 بحسب قانون الموازنة بلغ 90 تريليون و621 مليار دينار، وبذلك بلغت تخصيصات الرواتب للتسعة أشهر اكثر من 67 تريليون و965 مليار دينار، صرف منها 62 تريليون و722 مليار دينار بحسب تقرير وزارة المالية، وبذلك بلغت نسبة الانفاق الفعلي من حساب الرواتب على مستوى العراق وللتسعة أشهر الماضية 92.3%.
وبناءً على هذه النسبة، ينبغي أن يدفع لرواتب الإقليم في عام 2024، اكثر من 10 تريليونات و684 مليار دينار. إلا أن المبلغ المنفق فعلياً حتى نهاية شهر أيلول لم يتجاوز 7 تريليونات و 800 مليار دينار، ما يعني أن أكثر من تريليونين و884 مليار دينار من التخصيصات ما زالت غير مستخدمة. هذا المبلغ يعادل أكثر من 961 مليار دينار شهرياً للأشهر الثلاثة الأخيرة من العام، رغم الادعاءات السابقة بأن التخصيصات قد استُنفدت بالكامل ولم يتبق سوى 761 مليار دينار.
في 9/ 12/ 2024، وافق دائرة الموازنة التابعة لوزارة المالية الاتحادية، بشكل رسمي، على مناقلة 430 مليار دينار بين بندي «الرواتب الاجازات الاعتيادية المتراكمة » و«الرواتب المتراكمة للشهداء»، كما هو موضح في صورة الكتاب الرسمي والجداول المرفقة. وهذا المناقلة يكشف بوضوح زيف الادعاءات القائلة إن حصة الإقليم من تخصيصات الرواتب قد استنفدت بالكامل.
والسبب أن كلا الحسابين المذكورين يندرجان ضمن تخصيصات رواتب الإقليم، وفي ذات الباب والفصل والمادة في الموازنة. وبطبيعة الحال، يتألف هيكل تخصيصات الرواتب من أكثر من 20 عنصراً، ومن الطبيعي أن يظهر عجز في أحد المكونات وفائض في آخر، لأن هذه التخصيصات تعتمد على تقديرات قد تختلف عند التنفيذ.
هذا الوضع ليس فريداً ويحدث بانتظام في جميع المحافظات ومؤسسات الدولة العراقية الأخرى. وعادةً، يتم معالجة مثل هذه الفروقات بسهولة وفي وقت قصير من خلال عملية المناقلة قبل او مع تقديم طلبات التمويل المعتادة، من دون أن يؤدي ذلك إلى تعطيل صرف الرواتب أو تأخيرها، ولو لبضعة أيام.
لكن في حالة إقليم كوردستان، تأخرت الرواتب لنحو شهرين، وهي فترة غير مسبوقة وغير مبررة، خاصة وأن مثل هذه المناقلات تُعد إجراءً روتينياً مستمراً في باقي أنحاء العراق.
جيهانگير گولپي: أستاذ جامعي ومحلل اقتصادي ومالي