إن رسم السياسات اللغوية يعد من الأمور الضرورية التي ينبغي أن يوليها صناع القرار والقائمون على الضبط الاجتماعي في الدول أهمية بالغة. وذلك من أجل تغيير الواقع اللغوي والارتقاء به في المجتمع، إذ أن اللغة هي أداة تعبير المواطن عن وجوده، بغض النظر عن عرقه وقوميته ومعتقده وثقافته، وهي وعاء فكره ورمز هويته ووسيلته في التواصل مع بني جلدته والتفاعل معهم، ويعبر بها عن آماله وآلامه وعواطفه ومشاعره. واللغة بالنسبة للمجتمع وسيلة اجتماعية وأداة تفاهم وانسجام وتعاون، كما أنها تحفظ تراث المجتمع الحضاري والثقافي من جيل إلى جيل، إضافة إلى القيمة الرمزية للغة في تكوين الطبقات الاجتماعية، لذلك تحرص الدول المتحضرة والمجتمعات الواعية على إيلاء الاهتمام باللغات السائدة في مجتمعاتهم. وذلك من خلال دراسة واقع تلك اللغات، والتخطيط لمستقبلها، وتبني استراتيجيات فاعلة لتحقيق نتائج تلك السياسات. ويعد تشريع القوانين التي تحمي هذه اللغات خطوة أساسية للوصول إلى الأهداف المنشودة.
والسياسة اللغوية في العراق مقبولة إلى حد كبير من حيث التشريعات ذات العلاقة، فالدستور اهتم بهذا الموضوع، كما أن هناك قوانين عدة هي على جانب كبير من الأهمية تم تشريعها لرسم السياسات اللغوية والحفاظ عليها.
وفيما يلي سنسلط الضوء على الآليات التي وضعها الدستور العراقي للتعامل مع اللغة، ثم نردفه بالحديث عن الاستراتيجيات والسياسات التي رسمتها قوانين اللغة في العراق بهذا الخصوص، حتى تتضح مدى أهميتها في التكوين العلمي والاجتماعي والثقافي للعراق، ومن أجل تكثيف الجهود لتطبيق تلك السياسات بحذافيرها، بغية الوصول إلى الأهداف الوطنية والإنسانية المنشودة.
أولاً: دستور جمهورية العراق الدائم لسنة 2005
إن دستور جمهورية العراق الدائم لسنة 2005 نص على أن اللغة العربية واللغة الكوردية هما اللغتان الرسميتان للعراق، كما ضمن الدستور حق العراقيين من مختلف المكونات في تعليم أبنائهم اللغة الأم كالتركُمانية والسريانية والأرمنية في المؤسسات التعليمية الحكومية، وفقاً للضوابط التربوية، أو بأية لغة أخرى في المؤسسات التعليمية الخاصة. وقد أوجب الدستور على المؤسسات الاتحادية والمؤسسات الرسمية في إقليم كوردستان استعمال اللغتين العربية والكوردية، كما عد اللغتين التركمانية والسريانية لغتين رسميتين أخريين في الوحدات الإدارية التي يشكلون فيها كثافة سكانية، وفوق ذلك منح الحق لكل إقليم أو محافظة اتخاذ أية لغة محلية أخرى لغة رسمية إضافية إذا أقرت غالبية سكانها ذلك باستفتاء عام.
وقد أوضح الدستور بأن اللغتين العربية والكوردية تستخدمان في مجال إصدار الجريدة الرسمية، وفي التكلم والمخاطبة في المجالات الرسمية مثل مجلس النواب ومجلس الوزراء والمحاكم والمؤتمرات الرسمية، وفي الوثاق الرسمية والمراسلات، وفي المدارس، وفي أية مجالات أخرى يحتمها مبدأ المساواة مثل الأوراق النقدية وجوازات السفر والطوابع.
ومع أن الدستور قد رسم سياسة واضحة وحكيمة وبناءة في قضية التعامل مع اللغات، إلا أن هذه السياسة لم تترجم على الصعيد العملي وعلى أرض الواقع كما أريد لها، حيث كان هناك إهمال واضح من مؤسسات الدولة في تطبيق بعض فقرات الدستور، لاسيما فيما يتعلق باستخدام اللغة الكوردية في الكثير من تلك المجالات المشار إليها أعلاه.
ثانياً: قانون المجمع العلمي العراقي لسنة 1974 المعدل
شرع قانون المجمع العلمي العراقي سنة 1974، وقد تم تعدليه مؤخراً سنة 2015، وهو قانون على جانب كبير من الأهمية فيما يخص قضايا اللغة. لأن المجمع العلمي العراقي يعد مؤسسة عليا مهمة تعنى بوضع السياسات اللغوية ومتابعة تنفيذها، ويرتبط إدارياً ومالياً بمجلس الوزراء. وينشد هذا المجمع، انطلاقاً من الخطة التي رسمها قانونه، إلى إيجاد مرجعية علمية في حقل الاختصاص، والمحافظة على سلامة اللغات العربية والكوردية والتركمانية والسريانية وغيرها والعمل على تنميتها ووفائها بمطالب العلوم والأدب والفنون، ووضع معجمات وموسوعات علمية ولغوية، وتحقيق الكتب والوثائق العلمية القديمة ونشرها، وإحياء الإرث العراقي والعربي والإسلامي في العلوم والأدب والفنون والعناية بدراسة تاريخ العراق وحضارته وتراثه، ومواكبة التقدم العلمي الحديث، وهلم جرا.
وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة التي يحظى بها هذا المجمع والأهداف النبيلة التي يسعى إلى تحقيقها، إلا أنه لم يحقق أهدافه وما كان يرمي إليه على الوجه الذي كان ينتظر منه. صحيح أن المجمع كان له دور كبير في الحركة العلمية في العراق من خلال القرارات التي اتخذها والأعمال التي أنجزها، إلا أنه لم يحقق الكثير من الأهداف التي كان ينشدها ويصبو إليها.
ثالثاً: قانون الحفاظ على سلامة اللغة العربية لسنة 1977
يعد هذا القانون أحد أهم القوانين التي تمثل السياسات اللغوية في العراق، وتحديداً في مجال الحفاظ على سلامة اللغة العربية كما يتضح ذلك من عنوانه. فقد ألزم الوزارات وما يتبعها من الدوائر الرسمية وشبه الرسمية والمؤسسات والمصالح والشركات العامة والجمعيات والنقابات والمنظمات الشعبية بالمحافظة على سلامة اللغة العربية واعتمادها في وثائقها ومعاملاتها، كما دعت إلى اعتماد اللغة العربية لغة للتعليم، وألزمت مؤسسات النشر والإعلام التي تكون مطبوعاتها ومناهجها باللغة العربية أن تُعنى بسلامة اللغة العربية ألفاظاً وتركيباً، نطقاً وكتابة، وتيسيرها للجماهير وتمكينهم من فهمها.
هذا وقد ألزم القانون الوزارات بأن تنشئ أجهزة لها تعنى بسلامة اللغة العربية في وثائقها ومعاملاتها بما يكفل حسن تطبيق ما يدعو إليه القانون، كما رتب القانون عقوبات على من يخالف الأحكام التي تضمنها القانون. ومما سبق يتضح أن هذا القانون كان دقيقاً من جهة وحازماً وصارماً من جهة أخرى في المحافظة على سلامة اللغة العربية. ولكن مع ذلك يلاحظ بأن فيه أحكاماً تتناقض مع ما ورد في المادة (4) الدستور. وبما أن الدستور يعد القانون الأسمى والأعلى في البلاد، وأن أي نص أو بند أو فقرة في قانون ما يتناقض معه يعد باطلاً فإن تلك الأحكام التي وردت في هذا القانون وكانت متناقضة مع الدستور تعد ملغية ولا يعمل بها.
رابعاً: قانون اللغات الرسمية في العراق سنة 2014
هذا قانون آخر مهم جداً في رسم السياسات اللغوية في العراق، وتعد كل الأحكام الواردة في هذا القانون نافذة، فقد شرع أساساً لتطبيق المادة (4) من الدستور. ومن الأسباب الأخرى الموجبة لتشريع هذا القانون: احترام التنوع القومي واللغوي في العراق، وتأكيد ترسيخ البعد الإنساني لحضارته في عهده الاتحادي الجديد، والانسجام مع تعاليم الدين الإسلامي التي تؤكد على احترام اختلاف اللغات، وتمكين المكونات الأساسية لجمهورية العراق من التعبير الحر عن حاجاتها ومتطلباتها بلغاتها الأصلية. ويهدف القانون إلى ضمان احترام الدستور وتفعيله بتنظيم استعمال اللغات الرسمية في العراق. ويهدف كذلك إلى نشر الوعي اللغوي، بغية التقريب بين المكونات العراقية وتعميق وترسيخ المفاهيم الإنسانية والوطنية، وإلى تحقيق روح الاعتزاز باللغة الأم، وتأمين المساواة بين اللغة العربية والكوردية في الحقوق والامتيازات بالنسبة لاستخدامها في المؤسسات الاتحادية، ودعم وتطوير اللغتين العربية والكوردية واللغات الأخرى كالتركمانية والسريانية والأرمنية والصابئة المندائية.
وقد أكد هذا القانون على كل ما نُص عليه في المادة (4) من الدستور التي سبق أن تمت الإشارة إليها وقام بتنظيم كل ذلك، ثم أوضح أن المجمع العلمي العراقي والأكاديمية الكوردية هما المرجعية المعتمدة لتفسير المصطلحات والكلمات في حالة الاختلاف فيها. كما فرض القانون عقوبات انضباطية وغرامات مالية لمن يخالف الأحكام الواردة فيه، ومنح الحق للمتضرر في تحريك الدعاوي الجزائية عند مخالفة أحكامه، ودعا إلى تشكيل لجنة عليا ترتبط مباشرة بمجلس الوزراء لغرض متابعة تنفيذ الأحكام التي تضمنها.
وعلى الرغم من أن الأحكام التي نص عليها قانون اللغات الرسمية هي أحكام رائعة وهادفة، إلا أن الملاحظ أن الكثير من تلك الأحكام قد تم إهمالها وتهميشها وبقيت حبراً على ورق ولم تدخل حيز التنفيذ، لاسيما ما يتعلق باللغة الكوردية، مع أن هذا القانون من شأنه أن يكرس التعايش بين المكونات، ويعزز اللحمة الوطنية، ويؤدي إلى الانفتاح على الآخرين المختلفين وإلى التعرف عليهم وعلى ثقافاتهم وقيمهم بصورة أعمق، ويعمل على بسط سلطان العدل والمساواة والحرية، وغير ذلك من القيم الإنسانية التي تؤدي في نهاية المطاف إلى السلام والوئام والتآلف والانسجام، ويعود بالخير العظيم والنفع العميم على الوطن والمواطنين.
ونظراً لكل ما سبق، ندعو الجهات ذات العلاقة من المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية إلى تنفيذ جميع الأحكام الواردة في الدستور وفي قوانين اللغات، وعدم التعامل معها بانتقائية. إذ أن ذلك سيخدم اللغة العربية واللغة الكوردية واللغات الأخرى السائدة في البلاد ويصب في مصلحة المجتمع العراقي بصورة عامة.
د. محمد شاكر: أستاذ جامعي وبرلماني سابق