في أحد الأزقة الضيقة بمحلة عرب القديمة، وبجوار قلعة أربيل التاريخية، يجلس «الأسطة» خليل سعيد في محله المتواضع، مُحاطاً بماكينات الخياطة القديمة. لم يكن مجرد خياط عادي، بل حارساً لإرث ثقافي عراقي أصيل - صناعة السِدارة البغدادية.
في عامه الثامن والستين، لا يزال خليل يُصارع الزمن بمقصه الماهر، مُحافظاً على حرفة تكاد تندثر. يتميز عن أقرانه الخياطين بإتقانه لصناعة السِدارة، ذلك الغطاء الرأسي الذي أراد الملك فيصل الأول أن يجعله رمزاً وطنياً وعنواناً للثقافة العراقية.
يستذكر خليل، المولود في قلعة أربيل عام 1956، بداياته المبكرة مع الحرفة: «كان لدي شغف واندفاع غير طبيعي لتعلم مهنة الخياطة». دفعه هذا الشغف إلى ترك مقاعد الدراسة في الصف الثالث الابتدائي، ليبدأ رحلته مع الإبرة والخيط عام 1965 في محل أخواله.
على جدار محله، تتزين صورة قديمة التُقطت عام 1965، تجمعه مع ثلاثة خياطين آخرين. يشير إليها بفخر، مستذكراً صناعته لأول سِدارة في عمر الحادية عشرة، بعد تأمله في صورتها وإصراره على إتقان صنعها.
تتميز السِدارة، المعروفة أيضاً بــ «الفيصلية»، بشكلها النصف المقوس المدبب، ويمكن طيها للداخل. ارتبط تاريخها بالملك فيصل الأول الذي اتخذها بديلاً عن الطربوش العثماني في 23 آب 1921، لتصبح جزءاً من الزي الرسمي لموظفي الدولة العراقية الحديثة.
يصنع خليل حوالي مائتي سِدارة شهرياً، مستخدماً أقمشة من مناشئ بريطانية وتركية وإيرانية. يقول: «كلما كان القماش أفضل، أصبحت السِدارة أكثر فخامة، وأنا شخصياً أُفضل القماش البريطاني». يستغرق صنع السِدارة الواحدة نصف ساعة، ويتراوح سعرها بين 25 و30 ألف دينار.
يعمل خليل اليوم بمساعدة أحد أبنائه، لكنه يتأسف لأن أولاده وأحفاده لم يتعلموا صناعة السِدارة رغم إتقانهم للخياطة. يقول بحسرة: «كنت أتمنى أن يتعلم أولادي المهنة كي لا يضيع العنوان أو التاريخ».
يؤكد خليل أن السِدارة تمثل رمزاً للوحدة بين القوميات والطوائف العراقية، فهي «غطاء عراقي خالص يرتديه الكورد والعرب والتركمان وباقي المكونات». وفي محاولة للحفاظ على هذا الإرث، يُعلن استعداده لتعليم الجيل الجديد من الخياطين صناعة السِدارة، حتى لا تفقد أربيل هذه المهنة العريقة.
وتجدر الإشارة إلى أن كلمة «السِدارة» وردت في قاموس المحيط للفيروزآبادي بمعنى الوقاية، وهي كلمة معربة من أصل آرامي، كانت تعني غطاء الرأس عند ملوك الفرس القدماء.
تتجلى قصة السِدارة البغدادية في أربيل عبر عيون الباحث والتراثي يوسف كمال، الذي نجح في إحياء أول احتفالية خاصة بهذا الرمز التاريخي في المدينة. يروي كمال، في حديثه الخاص لـمجلة «كوردستان بالعربي»، كيف أصبحت السِدارة أكثر من مجرد غطاء للرأس، بل رمزاً للوحدة الوطنية وعنواناً للأصالة العراقية.
«إنها ليست مجرد قطعة قماش تعتلي الرأس»، يؤكد كمال، «بل هي جزء أصيل من الهوية العراقية، وخاصة البغدادية. تجمع تحت ظلها كل مكونات المجتمع العراقي، فالكل يفضلها كغطاء للرأس». ويضيف أن السِدارة ارتبطت تاريخياً بالطبقة المثقفة، حيث تمنح مرتديها نظرة احترام وتقدير خاصة في المجتمع.
وفي سياق العلاقة الوثيقة بين الكورد والسِدارة، يستذكر كمال شخصية بارزة في التاريخ العراقي الحديث: السياسي والزعيم الكوردي معروف جياووك، المنحدر من قرية جياووك التابعة لناحية سريشمه في أربيل. كان جياووك، أحد مؤسسي الدولة العراقية، من أشد المؤيدين لارتداء السِدارة، وظل مخلصاً لها حتى وفاته في بغداد عام 1958.
تتنوع السِدارة في أشكالها وطرق صناعتها، فمنها «سدارة الجبن» المصنوعة من الصوف المضغوط، والتي ارتبطت بشخصيات تاريخية معروفة، و«السدارة السكوجية» الأصغر حجماً المصنوعة من القماش، والتي كانت جزءاً من الزي الرسمي للشرطة والجيش في العهدين الملكي والجمهوري، قبل أن تحل محلها «البيرية».
بلغ تعلق العراقيين بالسِدارة حد الإبداع الشعري، حيث تغنى بها الشاعر الشعبي ملا عبود الكرخي قائلاً:
«مع كل هذا ليعلمْ
مني كل أجنبي ويفـهمْ
بالسدارة «الكرخيُّ» مغرمْ
حيث للمواطن شعاره»
ورغم محاولات إلغائها بعد انقلاب بكر صدقي في 29 تشرين الثاني 1936، صمدت السِدارة وبقيت رمزاً حياً في الذاكرة العراقية. وبعد عام 2003، شهدت عودة قوية للظهور، حيث أخذت المجالس البغدادية والمراكز الثقافية تحتفي بها كجزء لا يتجزأ من التراث العراقي. ويواظب المجلس التراثي البغدادي على إقامة مهرجان سنوي للسِدارة منذ عشر سنوات، وامتد هذا الاحتفاء إلى أربيل التي شهدت احتفالية خاصة بها في شباط من العام الحالي، مؤكدة أن هذا الرمز التراثي لا يزال حياً في قلب المدينة وذاكرة أهلها.
هيمن بابان رحيم: صحفي كوردي عمل في العديد من المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية