أكد باحث تاريخي على أن حضور الكورد كان بارزاً في إثراء الحضارة الإسلامية من خلال مصاحبتهم للرسول المصطفى (ﷺ)، ودورهم في الأماكن المقدسة، ومؤلفاتهم القيمة، وإسهامهم في تعليم السلطان العثماني الشهير محمد الفاتح، وتبوؤهم مناصب رفيعة..

وفي حين كشف عن وجود «كنز تاريخي» لمشاهير الكورد في دور المخطوطات السعودية، دعا الباحث إلى تكثيف الجهود لجمع تلك المخطوطات لتوثيق الإسهامات الكوردية المعرفية والحضارية. 

وقال الباحث د. ياسين طه محمد، إن جذور علاقة الكورد بالأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة «ترجع إلى عهد گابان الكوردي»، مشيراً إلى أن گابان أو جابان أبو ميمون الكوردي «يُعدّ أول صحابي كوردي التقى بالرسول محمد (ﷺ)، وروى عنه عدة أحاديث وفقاً لبعض المصادر الإسلامية الموثوقة».

وأضاف أن كورداً كثيرين «توافدوا على مكة المكرمة والمدينة المنورة في العصور اللاحقة لعصر الرسالة الأولى سواءً من خلال رحلات الحج والعمرة أم لتحصيل العلم الشرعي أم التجارة»، لافتاً إلى أن ذلك «أضفى حضوراً بارزاً للكورد في الأماكن المقدسة».

وأوضح د. ياسين طه محمد، أن من بين أولئك الكورد من «تقلد مناصب دينية مرموقة في المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة»، لافتاً إلى أن من بينهم «الملا إبراهيم الگوراني الشهرزوري (ت 1609م) الذي اشتغل بالتدريس والتأليف في المدينة المنورة وعلي السنجاري (ت 1713م) الذي تولى إمامة الحرم المكي لعدة أعوام ومحمد بن سليمان الكوردي (ت 1780م) صاحب المؤلفات الكثيرة الذي تقلد منصب مفتي الشافعية في الحجاز كما سكن فرع من العائلة البرزنجية في المدينة المنورة بعد أن انتقلت إلى هناك من قرية برزنجة في شهرزور وكان على رأسهم عميد العائلة محمد رسول البرزنجي حوالي عام 1688م».

وأورد الأستاذ الجامعي، أنه «ألف كتاباً سلط من خلاله الضوء على 80 مخطوطة تعود لأعلام الكورد ومشاهيرهم ومصنفاتهم المحفوظة في المكتبات والجامعات ودور المخطوطات السعودية، نسخت عن النسخ الأصلية لمؤلفاتهم مع تقديم تعريفات تفصيلية بها وسير موجزة لمؤلفيها مع الإشارة إلى أبنائهم وأحفادهم الذين واصلوا نهجهم في التصنيف والدراسة الدينية»، منوهاً إلى أن كتابه حمل عنوان «أعلام الكورد في دور مخطوطات السعودية... سيرهم والتعريف بمصنفاتهم». وأنه نشر من قبل قسم المخطوطات وحماية التراث الثقافي بجامعة التنمية البشرية في السليمانية وأن مركز كوردستان للوثائق والدراسات الأكاديمية في جامعة السليمانية حصل على نسخ رقمية لتلك المخطوطات وقام بتصنيفها وفهرستها رقمياً لتكون متاحة للزوار من الباحثين والمهتمين مع خطط مستقبلية لتوفيرها عبر الإنترنت على موقع جامعة السليمانية». 

وتابع الباحث في مركز كوردستان للوثائق والبحوث الأكاديمية، أن عدداً من المحققين والباحثين «بذلوا جهوداً مشكوراً لجمع مخطوطات أعلام الكورد أو تلك المخطوطات التي نُسخت لمصنفاتهم أو التعريف بها من قِبَل نُسَّاخ وعلماء آخرين»، مستطرداً أن من بين هؤلاء «المحقق المعروف الشيخ محمد علي قَرَداغي الذي ألّف كتاباً عن إحياء تاريخ علماء الكورد من خلال مخطوطاتهم كما نشر رئيس قسم المخطوطات في مكتبة الملك عبد العزيز بالرياض إبراهيم يحيى التميمي مؤخراً قائمة تضم المخطوطات العربية التي صنفها العلماء الكورد».

ومضى د. ياسين طه محمد قائلاً، إن تحريات مركز كوردستان «أثمرت عن نتائج تفوق ما تم جمعه في الجهود السابقة حيث تم اكتشاف العديد من المخطوطات التي لم يُعرَّف بها من قبل وما يزال البحث مستمراً في المكتبات السعودية عن آثار الأعلام الكورد»، مضيفاً أن محتويات تلك المخطوطات «تتنوع بين العلوم الإسلامية كالتفسير والفقه والعقائد فضلاً عن التاريخ وعلوم اللغة كالنحو والصرف والرسائل والفتاوى وعلوم الآلة وعلوم الفلك والمنطق». 

كنوز أثرت الحضارة الإسلامية

وأكد المؤلف، أن مخطوطات الأعلام الكورد «تشكل رافداً مهماً في إثراء المعارف والعلوم والثقافة الإسلامية وقد تم تحقيق عدد منها في الرسائل والأطاريح الجامعية كما طُبع عدد آخر منها عدة مرات نظراً لأهميتها وقيمتها العلمية والمعرفية»، عاداً أن التعريفات بتلك المخطوطات والتراجم «تضمنت أسماء أعلام إسلامية كوردية بارزة مثل القطب الصوفي الكبير خالد النقشبندي المعروف بمولانا خالد وكاك أحمد الشيخ نجل الشيخ معروف النودهي وشمس الدين الشهرزوري تلميذ السهروردي المقتول ومحمد بابا رسول البرزنجي وأحفاده منهم السيد جعفر البرزنجي صاحب المولد النبوي الشهير وابن خلكان الأربلي المؤرخ صاحب (وفيات الأعيان) ومشاهير الأسرة الحيدرية العريقة المنحدرة من أربيل وكذلك الملا أحمد الگوراني الكوردي صاحب (تفسير غاية الأماني) الذي عمل مستشاراً للدولة العثمانية وكان معلماً للسلطان العثماني الشهير محمد الفاتح والملا إبراهيم الگوراني المجدد الشهير الذي بلغت تصانيفه نحو 100 كتاب ومخطوطة ومحمد سليمان الكوردي الدمشقي صاحب المؤلفات الكثيرة ومفتي الشافعية في الحجاز، وابن الحاجب الكوردي المصري صاحب التصانيف في النحو والصرف والحافظ العراقي المحدث المشهور والملا إدريس البدليسي مستشار الدولة العثمانية وابن صلاح الشهرزوري المحدث الشهير والمستشار في الدولة الأيوبية وعلي السنجاري الذي كان إماماً في الحرم المكي في النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي وغيرهم من الأعلام». 

وذكر د. ياسين طه محمد، أن عملية توثيق المخطوطات وفهرستها باللغة الكوردية «لا تخلو من العقبات التي من أبرزها صعوبة ترجمة المصطلحات الإسلامية وغياب أرشيف وطني شامل في كوردستان مما يعيق إنشاء نظام تصنيف موحد»، مضيفاً أن بعض المخطوطات «نُشرت رقمياً بجودة منخفضة مما يصعّب على الباحثين فك رموزها وإعادة قراءة مضامينها والتعريف بها وتصنيفها علمياً بنحو مستوفٍ لحق المخطوطة وقيمتها الاعتبارية».

دعوة لجمع المزيد من المخطوطات

واعتبر المؤلف، أن الكتاب «يمثل جهداً متواضعاً يهدف إلى لفت الانتباه إلى كنز تاريخي لمشاهير الكورد في دور المخطوطات السعودية»، مضيفاً أن الكتاب، الذي جاء في 280 صفحة من القطع المتوسط، عبارة عن «مزيج بين الفهرسة والتوثيق العلمي والتاريخي لأعمال مجموعة من الأعلام الكورد الذين كانت لهم صلة بمكة المكرمة والمدينة المنورة أو وصلت مؤلفاتهم المخطوطة إلى الحجاز حيث تم الحصول على المخطوطات بطرق خاصة أو من خلال التواصل مع عائلات أصحابها أو المكتبات المتخصصة».

ورأى الباحث، أن الجهود المبذولة لجمع المخطوطات الكوردية «لا تزال في مراحلها الأولى»، حاثاً الجهات المعنية على ضرورة «بذل الجهود اللازمة لجمع المزيد من تلك المخطوطات والآثار لأهميتها في توثيق إسهام الكورد في إثراء الحضارة الإسلامية».

بيبلوغرافيا

د. ياسين طه محمد، حاصل على شهادة البكالوريوس في التاريخ من جامعة السليمانية عام 2003، والماجستير في الأديان والمذاهب في كوردستان من جامعة المنصورة عام 2015، والدكتوراه من جامعة السليمانية عن تاريخ العقائد الإسلامية في كوردستان عام 2023، وأنه عمل في عدد من المؤسسات الإعلامية الكوردية والعربية وترأس تحرير بعضها، ونشر عدداً من البحوث المتعلقة بالتراث وتاريخ المذاهب ومقالات صحفية باللغتين الكوردية والعربية، وأنه نشر خمسة كتب تاريخية حتى الآن.

باسل الخطيب: صحفي عراقي