عرف الإنسان السكين منذ القدم، وشكلت نقلة نوعية في تاريخ استقراره وتحضره. وقد وجد الآثاريون نماذجها الأولى في عدة أماكن من كوردستان العراق، لاسيما في المناطق التابعة لمحافظة السليمانية، كقريتي جرمو وزَرزي، على سبيل المثال لا الحصر.. وتطورت صناعة السكاكين من الحجر الصوان إلى مختلف أنواع المعادن.. مثلما تعددت استخداماتها لتتحول بعض أنواعها لاحقاً إلى أسلحة كالخناجر والسيوف والرماح.
وبرغم التطورات التقنية التي ألقت بظلالها على صناعة السكاكين، إلا أن هنالك من لا يزال يمتهن صناعتها يدوياً ويكافح لحماية حرفته من الاندثار، مادام هناك من لم يزل يقبل على اقتنائها لأغراض متنوعة منها الزينة.
وبعد أن كانت صناعة السكاكين والأدوات الزراعية المعدنية، من المهن المزدهرة في العديد من المناطق الكوردستانية، ومنها السليمانية، حتى وقت قريب، باتت الآن تعاني من انحسار شديد، نتيجة غزو النماذج المستوردة التي تباع بأسعار منافسة، حتى أنه لم يعد بالإمكان العثور على صانع سكاكين يدوية إلا بشق الأنفس.
وبرغم كثرة ما يعرض من سكاكين يدوية الصنع في أسواق السليمانية، إلا أن شخصين فقط بقيا يصنعانها محلياً، هما يونس عبد الخالق وكمال حسن.
نصف قرن في صناعة السكاكين
يتخذ العم يونس عبد الخالق (74 عاماً)، من محل صغير في سرداب بناية قديمة بشارع ملا علي بمحلة (سَرشقام) قرب سوق الدولار وسط مدينة السليمانية، ورشة له يصنع فيها مختلف أنواع السكاكين، والسواطير، وأدوات حلاقة، والمناجل وأدوات زراعية بسيطة أخرى. وذلك باستخدام بقايا معدنية متنوعة، منها مناشير قطع المعادن والحجر، والأنابيب وغيرها، فضلاً عن الخشب، والبلاستك وقرون الحيوانات (لاسيما الجواميس، والكباش والغزلان) التي يصنع منها المقابض بحسب رغبة الزبائن.
يقول العم يونس: «لقد ورثت المهنة من والدي وجدي منذ الصغر عندما كنا في بلدة تَويلة (حوالي 34 كلم شرق حلبجة) حيث كان هناك الكثير من الأشخاص الذين يمتهنون هذه المهنة لتلبية احتياجات الأهالي من السكاكين والأدوات الزراعية. ثم قمت بتأسيس ورشتي الخاصة قبل نحو نصف قرن من الزمن». ويبين أن حب المهنة هو الذي «جعلني أتمسك بها طوال هذه المدة الطويلة برغم ما يكتنفها من صعوبة وما تحتاجه من قوة وصبر ومطاولة ودقة وقدرة على التحمل فضلاً عن ندرة الإقبال عليها حالياً بسبب كثرة الأنواع المستوردة ورخص ثمنها حتى أن أولادي يرفضون تعلمها».
ويدلل العم يونس، على عراقة ورشته بعرض بعض المعدات القديمة فيها، ويوضح أن تاريخ السندان الذي يستخدمه حالياً «يعود لأكثر من مائة عام، فقد ورثه والدي من جدي وأن المطرقة التي استخدمها تعود هي الأخرى لنحو 70 عاماً»، ويلفت إلى أن أسعار السكاكين وباقي الأدوات التي يصنعها «تعتمد على نوعية المواد الداخلة في إنتاجها وحجمها وهي رخيصة عموماً وأكثر متانة إذا ما قورنت بالمستوردة».
ويشكو صانع السكاكين الأقدم في السليمانية من «قلة الطلب على السكاكين والمعدات الزراعية اليدوية برغم جودتها وعمرها الطويل»، ويعزو السبب إلى «إغراق السوق المحلي بالمستوردة منها من مختلف المناشئ العالمية ورخص أسعارها برغم رداءة نوعية الكثير منها».
انحسار كبير
وفي ورشة صغيرة بمحلة «خانووه قورَكان»، وسط مدينة السليمانية أيضاً، يواصل العم كمال حسن، صناعة السكاكين وأدوات زراعية بسيطة، منذ أكثر من 32 عاماً.
يقول العم كمال (55 عاماً)، «لقد أحببت السكاكين منذ الصغر، وتعلمت صناعتها وأسست ورشة لهذا الغرض»، ويضيف أن صناعة السكاكين اليدوية «تعاني من انحسار كبير حالياً إذ يكاد ينحسر عملنا حالياً على الطلبات الخاصة لاسيما من القصابين وأصحاب محلات الأسماك والمطاعم ومجموعة من الهواة فضلاً عن تصليح المتضررة منها أو شحذها».
وبشأن المواد التي يستعملها، يبين أنها «معادن خاصة لاسيما الفولاذ الأبيض الذي لا يصدأ. نستوردها من إيران أو ألمانيا أو السويد فضلاً عما نحصل عليه من تدوير بعض المعدات المعدنية المحلية كالأنابيب والمناشير والخشب والبلاستك والنحاس وقرون الحيوانات لصناعة المقابض»، ويبين أن قيمة السكاكين «تعتمد على نوعية المعدن وباقي المواد التي تستعمل في صناعتها وأن أغلى سكين بعتها كانت لأحد الهواة بقيمة 200 ألف دينار».
ويعزو العم كمال حسن، أسباب عدم وجود معامل محلية لإنتاج السكاكين إلى «ضعف الإمكانيات وغياب التشجيع وكثرة المستوردة منها وعدم القدرة على منافسة أسعارها»، ويتمنى أن «تحظى حرفة صناعة السكاكين باهتمام الجهات المعنية ولو من باب المحافظة عليها كمورث شعبي».
سكاكين الزينة الأكثر طلباً
بالمقابل يقول بائع السكاكين في محلة سرشقام قرب سوق الدولار في السليمانية، شيخ حسن قَرَداغي: «أمارس هذه المهنة منذ 25 عاماً بعد أن كانت مجرد هواية»، ويضيف أن الإقبال على السكاكين «ما يزال موجوداً لاسيما على الأنواع الصغيرة التي تستخدم للزينة أو في السفرات».
ويوضح أن «السكين المعروف باسم وستا (أسطة) سوران المصنوع مقبضه من قرن الغزال الذي نستورده من مدينة سقز (مدينة إيرانية تقع في محافظة كوردستان) يحظى بشعبية كبيرة»، وينوه إلى أن أسعار السكاكين «تتناسب طردياً مع جودة المواد التي تصنع منها وجماليتها وأن أسعارها تتراوح من 15 ألف دينار إلى 500 دولار».
في كل الأحوال، تبقى صناعة السكاكين يدوياً معرضة للاندثار قريباً إذا لم توليها الجهات المعنية ما تستحق من عناية، كحرفة تراثية على الأقل.
باسل الخطيب: صحفي عراقي