في تلك اللحظات التي قررت فيها الرحيل مع والدتها، بدأ شريط الذكريات بالعودة، كأنه مجموعة من الصور المتراصة والملتصقة ببعضها، معلّقة في القسم الخفي للذاكرة، عنوانها سوريا، بلادها الذي ولدت وتعلّمت وكبرت في ربوعها، إنها قصة الشابة السورية رشا كامل.
تقول رشا التي تعمل في مهنة المحاماة، لمجلة «كوردستان بالعربي»: في تلك اللحظات، تداخلت مشاعري بين الحزن على الوطن والقلق حيال المستقبل، ذكريات سوريا التي شكلت جزءاً كبيراً من هويتي برزت أمامي، بينما طفت على السطح فكرة المدينة التي مثّلت ملاذاً آمناً في عالم كل شيء فيه متغيّر، إنها مدينة أربيل عاصمة إقليم كوردستان، كان خط رحلتنا هو اللاذقية - دمشق - بيروت - أربيل.
عروسة الساحل
تصف رشا مدينة اللاذقية بالقول: اللاذقية مدينة سورية تقع على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، تحمل سحراً خاصاً يختبئ بين جبالها وأمواج بحرها الهادئ، هناك حيث رائحة خبز التنور يحملها نسيم البحر إلى أنوف المارّة، فتراهم يجلسون على الكراسي الخشب القديمة، يراقبون النار الموقدة، ويلتفون حول إبريق شاي نحاسي، ينتظرون حصتهم من فطائر الفلفل مع البصل، القريشة، الجبنة، والزعتر، كل هذه الروائح المختلطة شكلت جزءاً من ثقافة المدينة.
وتضيف المحامية السورية: عاشت المدينة صراعاً طويلاً، تجسد بين هويتها الثقافية الأصيلة، وبين محاولات النظام السياسي السابق تشويهها، وفرض صورة مغايرة لا تعكس حقيقتها، لقد تم تزييف تاريخ مدينة اللاذقية، لكنها إلى الآن لا تزال ترغب في أن تُسمع وتُفهم، بعيداً عن التشويش السياسي والسلطوي.
وعن اللاذقية في زمن النظام السوري السابق، تقول رشا: على مدار عقود، كانت المدينة تحاول أن تتنفس، أن تنطق، حتى أن تبكي، لتخبر العالم أنها لا تستهوي السياسة، ولا تعتبر نفسها عريناً للأسود، وأنها لم تُنجِب يوماً الأغاني الهابطة، ولم تُسهم في تسويق الظلم أو الطغيان. لكن النظام السياسي السابق في سوريا، عمل على محو هويتها، فظهرت على السطح فئة من المطربين الشعبيين الذين ارتبطوا باسمها، لكنهم لا يعبرون عن روحها، وانتشرت في شوارعها سيارات مصفحة يقودها شبان لا يعرفون حتى معلومة واحدة عن تاريخها، بل اختزلوا هذا التاريخ في لحظة معينة، بدأت مع وصول عائلة واحدة إلى السلطة.
تستذكر رشا لحظاتها الأخيرة في مدينتها، وتقول: ودّعتُ البحر بكأس من القهوة الحلوة، أو العصملّي كما يسميها أهل المدينة، عبرتُ مع أمي الطريق الدولي العام اللاذقية - دمشق، تاركة خلفي أحياء وأزقة غارقة في الظلام، وأناساً تملأ وجوههم الحيرة، وتدور في عقولهم الكثير من الأسئلة، عن مصير المدينة بعد تاريخ الثامن من ديسمبر 2024، ليلة سقوط نظام الرئيس بشار الأسد: هل سيعيد الحكام الجدد للمدينة حقها؟ أم أنها ستغرق مجدداً في بحور الانتقام والتشويه السياسي؟
عاصمة الياسمين
في الـ26 من ديسمبر، أي بعد نحو أسبوعين من سقوط النظام السياسي في سوريا، وقبل خمسة أيام فقط من نهاية عام 2024، وصلت رشا مع والدتها إلى مدينة دمشق. تقول: كانت المدينة وكأنها تستيقظ من كابوس طويل، لتنهض على حلم جميل لكنه غير مكتمل. في ساحة الأمويين وسط دمشق، رأيتُ الخيول تدور حاملة رايات إسلامية، والسيف الدمشقي يعلو فوقه علم جديد. أما الساحات، وجدتها مكتظة بالبضائع والبسطات من كل جانب. ورغم هذا التغيير، أبت رائحة الياسمين إلا أن تملأ المكان، لتعلن مجدداً أن دمشق ستظل، كما هي دائماً، عاصمة الياسمين.
وتكمل رشا: انطلاقاً من ساحة الأمويين، مروراً بسكة الحجاز، وساحة يوسف العظمة، وصولاً إلى المدينة القديمة، شعرت كأنني أمشي داخل متحف غارق في الجمال والأصالة. جلست مع أمي في مقهى النوفرة، كنت أرغب في أن تكون المدينة القديمة آخر مكان أودع فيه دمشق، قبل أن تصل السيارة وتنطلق بنا نحو الحدود السورية - اللبنانية، المعروفة باسم «المصنع».
ست الدنيا
وعن رحلتها في بيروت، تقول رشا: لطالما سمعت أغنية «يا بيروت يا ست الدنيا يا بيروت» للفنانة اللبنانية ماجدة الرومي، وصلتها للمرة الأولى مع أمي، لكنني وجدتها منهكة مثلي تماماً، حائرة وتستعد لاستقبال رئيس جديد، بعد فراغ سياسي طويل، عبرنا الطريق الرئيسي المؤدي إلى المطار. وفي كل مدينة قطعناها، ذرفت أمي الدموع، كانت تمسح دموعها وتشد سترتها لتحمي نفسها من البرد، سألتها: لماذا تبكين؟ فأجابت: أبكي على وطني.
بدأ العد التنازلي للإقلاع، مضيفة الطيران تعلن انطلاق الرحلة باتجاه عاصمة إقليم كوردستان، أربيل، تقول رشا: أربيل المدينة التي زرتها قبل عامين وأحببتها، لكن لم أكن قد اكتشفتها بعد، ورغم أن قدومنا هذه المرة مختلف، قد يدوم لفترات طويلة، إلا أن زيارتي السابقة لها، بعثت الطمأنينة في نفسي، والامتنان لإخوتي الكورد، الذين لم يبخلوا على السوريين طوال سنوات الحرب، باستقبالهم، والترحيب بهم، ومداواة جروحهم.
مدينة الشمس
هنا أربيل، مدينة النور والنار، تقول رشا: وصلنا إلى المطار، وتوجهنا مع أختي التي تقيم وتعمل في أربيل منذ 4 سنوات، كانت رحلتنا طويلة ومتعبة، تركنا خلفنا ذكرياتنا وبيتنا وأصدقاءنا، لكنني لم أتوقع أن أجد في اليوم الأول لي في المدينة قلوباً دافئة، وموائد عامرة تنتظرنا، فأربيل فتحت ذراعيها لنا، ومسحت دموعنا، فهي أيضاً لم تسلم من الحروب، وتدرك تماماً ماذا يعني أن يُجبَرَ الإنسان على التخلي عن بيته وأرضه.
وتختم رشا حديثها بالقول: من مقهى مشكو العريق، أطل على قلعة أربيل، أراقب حركة المارة، وأسمع صوت الباعة، وأجري هذا الحوار الصحفي، لأحكي عن قصتي، بينما بخار الشاي الساخن يملأ المقهى، والموسيقى الكوردية الرائعة، تعزف على أنغام قلبي وكأنها ترحّب بي وتقول: أهلاً وسهلاً في بلدك الثاني أربيل، أو بالكوردية هَولير، مدينة الشمس التي لا تغيب.
سهى كامل: صحفية سورية مقيمة في أربيل عاصمة إقليم كوردستان