لم يُخلق الإنسان كائناً مستقراً خالياً من الصراع، بل كان منذ كان، يعيش الصراع مع نفسه ومع الآخر مدفوعاً بغرائز جبلية أو بظروف بيئية قاهرة أو بمصالح معينة. وقد عبر عن ذلك القرآن الكريم بقوله البليغ في سورة البلد «لقد خلقنا الإنسان في كبد»، ولكن ميّزه الله سبحانه من بين خلقه بعقل يستهدي به الخير ويُدرك عواقب ما يفعله ويملك الذاكرة والتاريخ .
والفرد لا يعيش بدون مجتمع، بل لا يصبح إنساناً من دون مجتمع. فالإنس الذي ترمز إليه كلمة الإنسان لا يتحقق من دون جماعة. ففي خضم تعاكس الغرائز وتنافر الميول وتناقض المصالح بين الأفراد والمجتمعات، يتبين مدى المكابدة والمعاناة التي يقاسيها الفرد في الحياة.
وإن التاريخ الإنساني الطويل المتقلب من طور حضاري إلى آخر يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن معضلة الإنسان الأساسية هي نزعة القوي إلى الطغيان والعدوان «إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى».
وهنا، من حق القارئ ان يتساءل: إذا كان الأمر كذلك، فكيف استطاع الإنسان أن يحتفظ بالبقاء رغم كل هذه الصراعات الوجودية الصعبة؟
لسنا هنا في هذا المقال الوجيز في معرض البيان للعوامل التي تعزز الوعي الإيجابي للإنسان من الأديان والشرائع والأعراف والفلسفات التي فتحت آفاق السلام بين البشر، والعوامل المضادة التي قادت الإنسان نحو أهوال الحروب واستمرار العنف بين البشر. وإنما أبتغي، كما يشير عنوان المقال، تبديد القلق الذي بدأ يقض مضاجع المسلمين وغير المسلمين نتيجة التهديد الإرهابي الخطير المصحوب بتنفيذ فعلي لذبح الأبرياء من المسلمين وغيرهم حتى كاد يقرن الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين بالإرهاب الفظيع الذي يهز كل ضمير بسبب استغلال المجرمين القساة، لاسيما الداعشيين، شعارات الدين الإسلامي، ظلماً وبهتاناً، لتبرير جرائمهم الفظيعة.
وهذه المهمة، وأعني تبديد قلق المجتمعات بسبب هذه الظاهرة المدانة، تتطلب أمرين اثنين:
أولهما: معرفة الدور الحقيقي للدين في علاقته بالمجتمع كما بينه الله سبحانه، ومدى استجابته لتطلعات الأمم والشعوب نحو الحرية وتقرير المصير.
وثانيهما: فضح التحريف والزيف الذي يمارسه المتطرفون.
فيما يتعلق بالأمر الأول، نقول: كلما تناولنا موقف الدين، ونعني الدين الإسلامي، في مسألة ما، قصدنا الإرادة الأزلية الموحاة إلى الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم، إذ لا يوجد أمر آخر يعبر عن هذه الإرادة بالقطع سوى القرآن الكريم، فلا الفقه الذي هو اجتهاد بشري رغم أهميته في فهم اتجاهات هذه الإرادة، ولا التاريخ الإسلامي بمرجع حقيقي وأصلي قطعي للدين.
وهاكم جملة جامعة ذات دلالة واضحة لخص القرآن الكريم فيها خلاصة الرسالة الدينية للناس، وهي جملة في آية من سورة الحديد: «ليقوم الناس بالقسط». وتمام الآية الكريمة: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط....»، إلى آخر الآية 25 من (سورة الحديد).
أي إن الغاية النهائية للدين المؤيد بالكتاب والميزان، هي أن يتخلى الناس عن الطيش والعدوان والرذائل، وأن يتحلوا بقيم الحكمة والعدالة والفضيلة. وبهذا يعم السلام والاستقرار في المجتمعات. وهذا المبدأ يشمل الفرد والجماعة شعوباً وقبائل.
ويفهم بوضوح من هذه الجملة الجامعة أن على الناس جميعاً من دون تمييز القيام بالقسط الذي يضمن الأمن والعدل للأفراد والمجتمعات والشعوب.
أما كيف يصل المجتمع إلى مستوى قيام كل فرد بما يمليه عليه العدل من دون إكراه من حاكم، فهذه مهمة الرسالة الروحية للكتاب والرسالة العقلية للميزان المشار إليهما في الآية أعلاه. ومعلوم أن الإنسان روح وجسد، ومع أن الإسلام قد عني عناية بالغة بالجسد من حيث النظافة والقوة، فإن مهمته الأولى هي تغذية الروح بقيم الإيمان والإسلام واقتلاع الميول والنزعات الآثمة المتمكنة في الجانب الحيواني من الإنسان، ليقترب الإنسان من تحقيق الغاية الدينية، وليقوم الناس بالقسط. وحينئذ يتحقق ما جاء في الروايات من أن «الله خلق آدم على صورته».
والكتاب الكريم هو الذي يقدم برامج هذه التغذية الروحية بآياته، أما الميزان الذي ورد رديفاً للقرآن الحكيم في الآية الكريمة فهو منظومة الإدراك العقلي والوجداني المودعة في داخل الإنسان لمعرفة الخير والشر بمقتضى الآية الكريمة «وهديناه النجدين». وفُسِّر، أي الميزان، بأنه هو الحكمة التي تعني فعل كل ما هو صواب وسداد، بدليل أن القرآن الكريم يقرن بين الكتاب والحكمة في عديد من الآيات البينات. وعلى أية حال فالكتاب يعنى بالمسائل الدينية الغيبية على العموم، أما الحكمة أو الميزان فموضوعها العقل.
ويتبين من هذه الآية وغيرها أن للإسلام مصدرين هما الكتاب العظيم والحكمة التي منها تعاليم الرسول الكريم الثابتة لأمته قطعاً. ففيما يتعلق بالإيمان وعناصره المعروفة تستمد المعرفة من الوحي أي الكتاب، أما قضايا متغيرات الحياة فتستمد معرفتها من العقل وفقاً للتعاليم والمثل الأخلاقية التي تضمن تسلل الرذيلة إلى كيان الفرد والجماعة.
وتأسيساً على هذه الحقيقة القرآنية لن يكون موقف الإسلام الحقيقي إلا الوقوف مع حقوق الإنسان وحرياته واحترام الآخر وضمان الأمن الشخصي والمجتمعي والقومي بالقسط والعدل الذي هو شرع الله لبني البشر لا العنف وذبح الرؤوس البريئة.
وإذا كانت الغاية من الدين هي تكوين المجتمع العادل، والمجتمع العادل هو قمة الطمأنينة والاستقرار، وهو الذي يُحرم فيه الطيش والعدوان والاستيلاء على حقوق الغير، ويشيع التسامح، فلماذا لم يتحقق هذا الفردوس بين المسلمين؟ بل لماذا تخلف المسلمون عن غيرهم في قضايا الحرية والانفتاح على الشعوب رغم أسبقية الإسلام في إرساء مبدأ التعارف بين الشعوب والرحمة للعالمين ونبذ الإكراه؟
باختصار شديد نقول: الدين أو القانون شيء، وتطبيق الدين شيء آخر. الدين أمر إلهي، والتطبيق فعل إنساني، وقد قدر الله سبحانه أن يكون الإنسان حراً فيما يريد ويختار (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، ومهمة الدين مساعدة الإنسان في التغلب على ميوله الآثمة لا إجباره، وهو معرض في بيئات مناسبة لتجاهل قيم الدين وغيره تبعاً لمصالحه.
وحيث إن التاريخ فعل إنسان وقد عرفنا طبيعته، فإن تاريخ المسلمين الحافل، حاله حال تاريخ غيرهم، بالتجاوزات الخطيرة على حرية آخرين، لا يمثل حقيقة الدين. وما يشاهد من فضائع تتناقض مع كرامة بني آدم وبناته يرتكبها المتطرفون باسم الإسلام، فإنما هو محاكاة للجانب الزائف من تاريخ المسلمين ولا صلة له البتة بدين الله القائم على القسط والعدل.
ونكتفي بهذا القدر هنا لفضح المتطرفين. والذي يهمنا التأكيد عليه في ضوء حقائق القرآن الكريم والسيرة النبوية الطاهرة هو أن الإسلام دين السلام لا دين العنف، ودين يدعو إلى الحكمة وإلى ما هو أحسن، هو دين التعارف بين الناس والأقوام لا دين الكراهية ورفض الآخر (والله يدعو الى دار السلام).
د. محمد شريف: كاتب ومفكر كوردي مختص في فلسفة القانون