في خضم الظلام، تتألق نجوم الإنسانية بأبهى صورها، وفي قلب المعاناة، تتفتح زهور الأمل لتعطر دروب الحياة بشذى العطاء. هي حكاية ليست ككل الحكايات، قصة تروي ملحمة شعب عانق الألم، لكنه لم يفقد قدرته على العطاء، ولم تنطفئ في قلبه جذوة الإنسانية.
في ثمانينات القرن الماضي، حين كانت رياح الحرب مع الجارة إيران تعصف بالعراق، وفي زمن كانت فيه القسوة تطرق أبواب البيوت الآمنة، تجلت قصة تستحق أن تُروى، لا لأنها تحكي عن الظلم والمعاناة فحسب، بل لأنها تروي كيف انتصرت الإنسانية على القهر، وكيف تغلبت القلوب الطيبة على قسوة الأيام.
هي قصة تنقلنا بين دهاليز السجون وأروقة المعتقلات، لتأخذنا في رحلة إلى قلب الشعب الكوردي، حيث تتجلى أنبل معاني التضحية والعطاء. قصة تروي كيف أن الإنسان، مهما بلغت به المحن، يظل قادراً على العطاء، وكيف أن القلوب النقية تنبض بالخير حتى في أحلك الظروف.
دعوني أروي لكم حكاية عشتها بنفسي، حكاية تختزل في طياتها آلام شعب وكرم أهله، قصة تبدأ من سجون دهوك، لتتفتح براعمها في قرى أربيل، وتزهر في قلوب أناس عرفوا معنى الإنسانية الحقيقية...
في عام 1988، وبعد أن وضعت الحرب العراقية - الإيرانية أوزارها وخمدت نيرانها، بزغ أمل خافت مع صدور عفو عام فُتحت بموجبه أبواب السجون في كل العراق ومن ضمنها سجون دهوك، وأُطلق سراحي مع مجموعة من المعتقلين. لكن تلك اللحظات من الحرية كانت أقصر من نسمة صيف عابرة، إذ لم تتجاوز نصف ساعة من الزمن. قالوا لنا بسخرية مُرّة: «اذهبوا إلى السوق، اشربوا عصيراً، ثم عودوا إلى مركز الشرطة لاستلام أوراقكم الثبوتية».
كان ذلك الأمل الخادع أشبه بفسحة قصيرة بين غيمتين داكنتين، فسرعان ما تلبدت سماء الحرية بغيوم سوداء حالكة حين أطلق النظام حملات الأنفال الشرسة ضد الشعب الكوردي. انهمرت الاعتقالات كالمطر الأسود، وتحولت قلعة «نزاركي» القريبة من دهوك إلى مستودع للألم البشري، تكدست فيها آلاف الأرواح البريئة - نساءً وأطفالاً، شيوخاً وشباباً - في مشهد يدمي القلوب ويعتصر الأفئدة.
كانت تلك اللحظات القصيرة من الحرية المزعومة أشبه بمسرحية قاسية، وبأمرٍ من أمين سر فرع حزب البعث في دهوك، أُعيد اعتقالنا وزُج بنا في القلعة ذاتها، نشارك مصير أولئك الذين اقتُلعوا من قراهم بعد أن هُدمت منازلهم ورُدِمت آبار مياههم بالإسمنت، في محاولة لإجبارهم على الاستسلام.
مرت أيام عصيبة في القلعة، حيث شهدنا صنوفاً من التعذيب والقتل تقشعر له الأبدان. ثم جاء قرار ترحيلنا إلى مجمع «جيژنيكان» القريب من قضاء بحركة شمال شرقي أربيل. وصلنا إلى هناك لا نملك سوى ثيابنا الرثة، محرومين من أبسط مقومات الحياة.
أصدر حزب البعث بياناً يهدد بمعاقبة كل من يمد يد العون للمرحَّلين، لكن أهالي أربيل والقرى المجاورة أظهروا شجاعة منقطعة النظير. تحدوا القرار وتدفقت قوافل المساعدات تترى، محملة بكل ما يحتاجه الإنسان من مستلزمات منزلية وغذائية، بل وصلت حتى مواد البناء والأجهزة الكهربائية والمساعدات الطبية والمالية. كان مشهداً مؤثراً حين رأينا دموع المتبرعين تنهمر وهم يسلموننا معوناتهم.
في أول جمعة من أيام منفانا، توجهت بوجهي شطر قرية «بحركة» - التي تحولت اليوم إلى قضاء عامر في أحضان أربيل - لأؤدي فريضة الجمعة مع جموع المصلين. وبينما كنت جالساً في المسجد، ارتفع صوت الملا طيّب، إمام جامع بحركة، يصدح بخطبته باللهجة الكوردية السورانية التي كانت غريبة على مسامعي آنذاك. لكن ما استطعت فهمه من كلماته كان كافياً لهز مشاعري، إذ خاطب المصلين بصوت يملؤه الحنان والإنسانية قائلاً: «يا من تتوقون للحج وتدخرون أموالكم لزيارة بيت الله الحرام، ها قد جاءكم الأجر العظيم إلى عتبات دياركم. هؤلاء إخوانكم المُرحّلون في مجمع جيژنيكان هم حجكم اليوم، وما تنفقونه عليهم يعدل في الأجر والثواب نفقات الحج».
كانت كلمات الملا طيّب كقطرات المطر على الأرض العطشى، تسقي في النفوس معاني الرحمة والتكافل، وتذكّر المؤمنين بأن العبادة لا تقتصر على الشعائر وحدها، بل تمتد لتشمل إغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج. لم تكن خطبته مجرد موعظة دينية، بل كانت نداءً إنسانياً عميقاً يربط بين قدسية العبادة وسمو العطاء.
استمر الامام في خطبته ولاحظت المصلين يذرفون الدموع. سألتُ جاري في الصلاة باللغة العربية عن سبب بكائهم، فأجابني والدموع تنهمر على خديه: «نبكي عليكم وعلى إخواننا في مجمع جيژنيكان. ما أصابكم مصيبة أصابت كل الكورد».
طلب الإمام من كل مصلٍ أن يستضيف شخصاً أو اثنين من المرحَّلين لتناول الغداء وتقديم ما يحتاجون إليه. ذهبتُ مع جاري في الصلاة إلى منزله، حيث استقبلتنا زوجته بحفاوة بالغة. لفت انتباهي مظهرها المميز وزينتها، وكأنها عروس في يوم زفافها. ابتسم صاحب المنزل، وقال: «أعرف ما يدور في خاطرك. إنها بالفعل عروسي، وهذا أول يوم في زواجنا، ما نسميه «صباحية العرس».
شعرت بالحرج الشديد وقلت له: «لماذا أتيت بنا إلى منزلك في هذا اليوم الخاص؟» فأجاب بابتسامة دافئة: «بالعكس، وجودكم جعل هذا اليوم أكثر تميزاً. أنا وزوجتي سعيدان جداً باستضافتكم. اعتبروا هذا البيت بيتكم، وزورونا متى ما شئتم».
في تلك اللحظة، أدركت أن الإنسانية تتجلى في أنقى صورها وسط أحلك الظروف، وأن الكرم الكوردي يتسامى فوق كل المحن والصعاب.
حمدي سنجاري: دكتوراه قانون دولي ومعاون مدير شركة سومو