معلّمي في الطبيعة
معلّمي في الطبيعة

قبل أن أبدأ حياتي في الجبل كنت تلميذاً مهملاً للطبيعة. فقد ولدت في مدن الأسمنت ونشأت فيها وسأموت فيها. أقطع دروب المدينة، فتمرّ بي بيوتاً أعرف أهلها، وأرى البضائع في الأسواق جاهزة ومغلفة. لا أرى الريف إلا كسائح متفرج، ولكن من خارجه. على عكس والدي الذي تعلم من خواله الفلاحين من (البو حسن)، لم أعرف مواسم الغرس ولا الحصاد. لم أدفع، حتى ولو للهو، محراثاً لأشق الأرض، ولا منجلاً لأجتثّ ما زرعت. آكل الخبز جاهزاً وأهمل جهد من زرع قمحه، وعَرَقَ من خَبَزَه.

في الجبل تعلمت من الطبيعة وأنا فيها. لم أكن زائراً عابراً ولا متفرجاً. أنا في الطبيعة  تحيطني وتحتويني. أدفع باب غرفة الطين فتمتد أمامي سلاسل الجبال حتى نهاية الأفق، وتأتيني من عمق السماء الغيمة التي ستزخ مطرها على سقف بيتي أو تغطّيني بلحاف سميك من الثلج.

كنت أكتب يومياتي تحت شجرة جوز ضخمة تشكل هوية وادينا. أكتب عما حولي.. السناجب تخطف بتواتر وسرعة لتدفن جوزاتها في ثقوب الأرض وينزل الحجل من أعالي الجبل إلى السفوح، وتلتم العنزات بهلع. أكتب عنها ناسياً الشجرة التي أسندت ظهري إلى جذعها واحتوتني بأغصانها. كنت أكتب حين مر بي (مام صوفي) ونظر في وجهي مليّاً وقال لي:

- وجهك شاحب كما الموتي.

لم تكن لدي مرآة، فدخلت كهف الخوف مغادراً سهل المعرفة. منه ومن علوم قديمة عرفت أن شجرتي كانت تتنفس في غفلة عني، وأنني تحتها أتنفس ثاني أوكسيد الكربون.

مام صوفي ولد وكبر في القريةً المهجورة على سفح يعلونا قليلاً. حين وصولي إلى الجبل كانت هذه القرية مكافأة السير المجهد الطويل في الجبال. الأرض المسوّاة، مسار السواقي، ومروز الحقل المحروث.. الخطوط المستقيمة دلائل على وجود الإنسان. هذه لمساته. في هذه القرية ولد وكبر مام صوفي وبقي في البيت الوحيد شاهداً فيها. لكم يتشابه لحاء وجهه مع جلد الشجرة التي احتوتني وأفكاري؟!

بدأت تماريني الأولى أكسر الحطب بجهد يائس وأتعب مع أول الضربات حين أمسك المعلم بيدي:

- لا تقلع الشجرة بعضلة اليد، إنما بمران العقل.

قالها وهو ينقر بإصبعه على صُدغي. 

علّمني أن أقلب الجذع وأتابع مسار العروق وأضرب في نقطة الضعف. تعلمت منه علم العتلات فاقتصد في الجهد اعتماداً على ثقل الـ«بيور» (الطُبَر) وهو يسقط على الجذع.

كما سكان هذا الوادي عبرنا صيفاً وربيعاً من دون أن نتملّاهما. شاغلنا شتاء قاس وطويل، نخافه قبل أن نتصوره. لذلك علينا أن نمتّن سقوف بيوتنا ونجمع ما يكفي من الحطب…

مرّ بنا مام صوفي وألقى جملته القصيرة العارفة:

- ستأتي الثلوج مبكرة!

رفعنا رؤوسنا إلى غيمة رمادية وفضاء أشعث «ستأتي مبكرة»!

لا يسمع مام صوفي تنبؤاته الجوية من الإذاعات، إنما يستقيها عبر العقود من خبرة أجداده، ومن صراع جسده مع الطبيعة. تتالى الصدف وتشكّل عبر العقود حتميات الحياة هنا. أهله يرون الفصول من خروج أول البراعم وهي ترفع رؤوسها من تحت التراب ومن سلوك الحيوانات وهي تجمع الذخيرة لشتاء طويل قادم. 

كان الشتاء جبليّاً بامتياز وصلت ثلوجه فوق الخاصرة. رأيت من موقع حراستي العالي كيف يشقّ رجال القرية طريقاً وسط سهل غطّته الثلوج. شكّلوا طابوراً وراحوا يكسرون جدران الثلج بأجسادهم. خطوة متسقة لرجلين، يليهم اثنين خلفهما، ثم رجلين متقابلين... وهكذا فتح الطريق للقرية التي حاصرتها الثلوج.

الطبيعة خبيثة وغدّارة بمقدار ما فيها من جمال، وما تقدمه لنا من خيرات. تفلت صخرتها من صدر الجبل فنهوى إلى قاع بلا قرار. تجرف سيولها العابرين حين يدوّخهم التيار. تنهار حاملة ضحيتها وسط سيل من الصخور. تدفننا في ثلوجها حين نضيّع كوخاً تشتعل فيه النار. في قمم جبل «قنديل» كدت أسلّم جسدي للثلوج لولا ذبالة من حرارة أيقظت قلبي وإرادتي وهي تأمرني: انهض!

معلمي لا يقاوم الطبيعة بجسده فحسب، إنما بمعارفه بحيلها. علّمني كيف أفلت من كمائن الطبيعة. أمرني أن أخلط طين الأرض بصخور البراكين وأغصان الشجر. 

- الجبل كائن حي لا تهزّ رقدته بالديناميت! سيهديك صخوره بدلاً من أن تنتزعها منه. حجارته تحبّ بعضها فوالف بين قلوبها! 

من هذا الخليط بين التراب وتعاشق الصخور بنيت كوخي الأول. مع أول ندف الثلج آخذت المدحلة والرماد ورممت سقفه. تتراكم الثلوج فوق السقف، تتدفق مياه الأمطار حوله وتصفعه الرياح بلا رحمة، وبيتي ثابت في صدر الجبل ينفث دخان موقده بثبات وحكمة.

هنا تعلمت أن أذهب للعمل حين تعاندني الأفكار.. تعلمت أن أصنع بيتي من حجارة الجبل وأتدفأ بجهد الحطاب الذي هو أنا وآكل من ثمار شجيرات ساهمت في زراعتها.

مع ذوبان الثلوج وبداية الربيع داهمتنا الرياح . تأتينا من مدخل الوادي وهي تعوي مثل سيل من ذئاب، تصفّر حول الكوخ وتزلزل سقفه وتهيّج الفئران والأفاعي، تلوي شجر الإسپندار فيئن من الوجع… تلبد السناجب ملتمّة في جحورها، وتلتمّ معها عنزاتنا ويصهل الحصان وهو يرفس جدران الإسطبل. تعوي الـ«رَشه با» (العاصفة / الريح السوداء) ونحن نخال القيامة بدأت. لكن معلمي يطمئنني:

- لا تقلق، هذه هي الريح السوداء. تهزّ الأشجار لتوقظ في عروقها ماء الحياة، فالربيع قادم!





X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved