يتدفق مياه نهر الخابور من ينابيع جبال كوردستان تركيا الواقعة على الشريط الحدودي مع إقليم كوردستان العراق وتنحدر بقوة بين وديان وعبر منعطفات جبلية وعرة، وعند دخولها أراضي إقليم كوردستان تغذيها عدة روافد أخرى بمياهها العذبة والصافية ليجعل من هذا النهر الخالد شرياناً لحياة سكان المناطق التي يمر بها منذ مئات آلاف السنين وليساهم في بناء حضارة إنسانية على ضفافه ويوثق حكاية عشق الإنسان للحياة والطبيعة.
يبلغ طول نهر الخابور نحو 160 كيلومتراً. يبدأ من منطقة نزدور على الشريط الحدودي مع تركيا ويمر عبر مدينة زاخو وصولاً الى منطقة فيشخابور القريبة من الحدود السورية ليصب في نهر دجلة، وبالنسبة لسكان المنطقة فإن نهر الخابور ليس مجرد ممر مائي فقط وإنما هو شريان حياة اقتصادية واجتماعية وثقافية.
يقول مدير دائرة الموارد المائية في إدارة زاخو المستقلة محمد ياسين لـ«كوردستان بالعربي» إن نهر الخابور يشكل مصدراً مهماً لمياه الشرب والزراعة وتربية المواشي في منطقة زاخو، وتعتمد أكثر من 10 آلاف دونم من الأراضي الزراعية عليه فضلاً عن توفير مياه الشرب لأكثر من 40% من سكان المنطقة.
ويوضح ياسين أن نهر الخابور سجل في شهر آذار 2024 أعلى نسبة تصريف للمياه على مدى 60 عاماً الماضية، إذ سجل تصريف مياه النهر 3 آلاف متر مكعب في الثانية، وارتفع مستوى مياه النهر إلى 10 أمتار. في حين سجل عام 2009 أدنى حد لتصريف المياه بلغ 6 أمتار مكعب في الثانية، وسجل مستوى ارتفاع النهر 30 سنتمتراً، مبيناً أن مياه الخابور يغذي نهر دجلة بنسبة 13%.
ويضيف ياسين أن حكومة إقليم كوردستان تخطط لتطوير نهر الخابور وفق المعايير البيئية والاستفادة منه لأغراض التنمية منها إقامة سد كبير على النهر للاستفادة منه للمشاريع الزراعية والسياحة والتنمية فضلاً عن خطط للاستفادة من النهر في إنتاج الطاقة الكهربائية.
وأنشأت إدارة زاخو المستقلة مشروع كورنيش على ضفاف نهر الخابور في مدينة زاخو الذي ساهم في تنظيف النهر وإضفاء جمالية عليه مما ساهم في جذب السياح من مختلف مناطق إقليم كوردستان والعراق، إضافة إلى ملائمة المكان لإقامة الاحتفالات والنشاطات والفعاليات الثقافية والاجتماعية.
لنهر الخابور علاقة وطيدة مع سكان منطقة زاخو، وانعكست هذه العلاقة على الأعمال الفنية والغنائية والأدبية للعديد من مبدعي هذه المنطقة. كما أن لهذا النهر حضوراً ملحوظاً في الذاكرة المجتمعية لأهالي منطقة زاخو، إذ وثقت ضفاف الخابور أفراح وحفلات زواج ومناسبات اجتماعية وحكايات مثيرة وحوادث مؤلمة.
يتذكر الكاتب المختص في تاريخ زاخو سعيد صديق رزفان لـ«كوردستان بالعربي» أن ضفاف نهر الخابور كان المكان الرئيسي لاستحمام العرسان حتى نهاية سبعينات القرن الماضي. وكان أصدقاء وأقرباء العريس يجتمعون حوله لاستحمامه بماء النهر ثم يقومون بارتدائه ملابس العرس الجديدة وسط الدبكات والأغاني الفلكلورية. وكانت لنهر الخابور قدسية لدى العوائل اليهودية، إذ كانوا يمارسون طقوساً خاصة بهم؛ وهي أنه عندما تتزوج فتاة يهودية فإن عليها أن تغطس ثلاث مرات في نهر الخابور قبل يوم عرسها. وهذه العادة تؤكد جهوزية الفتاة للحياة الزوجية ومن ثم يتم نقلها كعروسة إلى بيت العريس.
ويضيف رزفان أنه في ليالي الصيف كانت ضفاف نهر الخابور تكتظ بسكان المدينة وتشهد حفلات سمر وتجمعات للعوائل وهي تطبخ أنواع الأكلات وتقدمها لبعضهم البعض وسط أجواء من الفرح والدبكات تستمر حتى وقت متأخر من الليل.
ويشير رزفان إلى أنه لم يخلُ ضفاف الخابور من المآسي خصوصاً عند حالات الغرق في النهر وحدوث الفيضانات في فصلي الشتاء والربيع التي كانت تخلف خسائر بشرية ومادية، موضحاً أن فيضان النهر كانت تبث الفزع لدى سكان زاخو خشية من غرق أحبائهم وتدمير منازلهم، خصوصاً عندما يستمر فيضان النهر لعدة أيام. وكان هناك اعتقاد بأن النهر يطلب أضاحي ولن تهدأ إلا بعد تقديم «قربان» له. وفي هذه الأثناء كان يقوم البعض بتزيين حصان أو بغل وسط تجمع كبير من أهالي المدينة ويتم رمي الدابة في النهر لتقديمها قرباناً لتهدئة تيارات وأمواج الخابور العاتية.
وتحمل ذاكرة أهالي زاخو حكايات تبث الرعب بين الأطفال والنساء، وكانت تتردد بين حين وآخر للحد من ذهاب الأطفال والنساء إلى النهر في الليل خشية من الوقوع في النهر. ويذكر رزفان أن أبرز هذه الحكايات هي أسطورة «رجل النهر»، وتختصر قصته في أن رجلاً كان يعيش في نهر الخابور يُكنى بـ«رجل النهر» خطف امرأة اسمها «حمراء» وقام باحتجازها في كهف قرب النهر لمدة ثلاث سنوات، تزوجها وولدت حمراء طفلين وبعدها تمكنت من الهرب، وكان رجل النهر يخرج كل ليلة ينادي باسم «حمراء» ويدعوها للرجوع إليه لرعاية طفليها.
من جانب آخر، يرى رزفان أن أهمية الخابور في تنشيط التجارة لا تقل عن أهميته في المجالات الحياتية الأخرى، إذ كان نهر الخابور عاملاً مهماً لنقل البضائع المحلية إلى أسواق الموصل عبر الأكلاك كما أنها ساهمت في انتعاش صناعة الأكلاك في المنطقة التي كانت تنقل الماشية والمنتجات الحيوانية والمنتوجات الزراعية وأشجار القوغ (بالكوردي سپيدار) إلى أسواق الموصل حتى نهاية الخمسينات من القرن الماضي.
يغذي نهر الخابور الأرض والإنسان والحيوان والأشجار عبر الأيام والسنين من دون توقف. ورغم أن تياراته الجارفة دمرت منازل وابتلعت أرواحاً، إلا أنه وفر العيش والاستقرار والعمران على ضفافه لتوثق قصص العشاق والسائحين والرحالة وحكايات المزارعين الذين يزودون الأسواق بمحاصيلهم، والمخاطر التي يخوضها الصيادون وسط الأمواج للحصول على بضعة أسماك، والعمال الكادحين البسطاء الذين شيدوا بسواعدهم جسوراً على ضفتي النهر لعبور قوافل التجار والمبشرين والجيوش وجمعت الأحبة والفرقاء.
المزارع الأربعيني، سرود خليل، قال لـ«كوردستان بالعربي» إن الخابور «منحة الطبيعة وشريان حياتنا هو كل ما نملكه ونحن لا شيء بدونه».
رشيد صوفي: صحفي عمل في الصحافة المحلية والعربية والدولية