تحت ظلال قلعة أربيل العريقة، وفي مشهد يعكس عبق التاريخ وأصالة التراث الكوردي، تنبض سوق شعبية فريدة من نوعها، حيث يلتقي عشاق «القزوان» - تلك المسبحة (أو السبحة) الكوردية التقليدية - مع حرفيين مهرة ورثوا صنعتهم أباً عن جد.
في الجهة الجنوبية من القلعة التاريخية، وتحديداً عند أطراف حديقة «باغي الشار» الخضراء، يفترش أكثر من أربعين بائعاً الأرض، يعرضون تحفهم اليدوية من المسبحات بمختلف أشكالها وأحجامها. ومع إشراقة شمس كل يوم جمعة وفي أيام العطل، تزدهر هذه السوق التراثية بشكل لافت، حيث يتضاعف عدد الباعة لتلبية الطلب المتزايد من الزوار القادمين من المحافظات المجاورة. وإلى جانب هؤلاء المفترشين، تصطف محلات متخصصة تعج بالمسبحات والمقتنيات التراثية الأخرى.
وفي حديث خاص عن أسرار مسبحة «القزوان» الكوردية، كشف محمد عزيز، وهو أحد الخبراء في تجارة المسبحات التراثية لمجلة «كوردستان بالعربي»، عن التفاصيل الدقيقة لهذه القطعة الفنية المميزة: «القزوان، أو ما نسميه بالكوردية (داره بَن)، هو ثمرة تنمو في عناقيد على أشجار تستوطن جبال كوردستان الشامخة، خاصة في جبل سفين ومرتفعات بارزان»، يشرح عزيز، مضيفاً أن هذه الثمار تمر بعملية تجفيف طبيعية تحت أشعة الشمس قبل أن تتحول إلى حبات المسبحة الشهيرة. وما يثير الاهتمام، يتابع عزيز، «أن نواة هذه الحبات صالحة للأكل كنوع من المكسرات اللذيذة».
وعن الأسعار، يوضح عزيز، الذي يمارس هذه المهنة منذ أربع سنوات، أن القيمة السوقية لمسبحة القزوان تتراوح بين 20 ألف دينار عراقي وقد تصل إلى 200 دولار أمريكي أو أكثر، معتمدة على جودة الصنع ونوعية الحبات. ويسترسل في شرح الأنواع المختلفة للقزوان، مشيراً إلى نوعين مميزين: «الچوار چاو» أي ذات العيون الأربع، و«الأبلق» المعروف بلمعانه وإشعاعه المميز.
يجلس الحرفيون بصبر وأناة، يجمعون حبات القزوان - ذلك النبات البري الذي تجود به جبال كوردستان - ليحولوها بأناملهم الماهرة إلى مسبحات تحمل في طياتها قصص وحكايات الأجداد. فالقزوان في المجتمع الكوردي ليس مجرد أداة للذكر أو زينة تُعلق، بل هو رمز اجتماعي عميق الجذور في الثقافة المحلية، يتجاوز بُعده الديني ليصبح جزءاً لا يتجزأ من الهوية الكوردية.
وحول خصوصية مسبحة القزوان، يؤكد عزيز أنها تتميز بطولها الفريد وعدد حباتها الكبير الذي يتراوح بين 250 و400 حبة، بطول يتجاوز المتر الواحد، متجاوزة بذلك السبح التقليدية التي لا تتعدى 101 حبة. «إنها ليست مجرد أداة للذكر الديني»، يؤكد عزيز، «بل هي رمز للأناقة الكوردية، خاصة بين الشباب الذين يقبلون على شراء الأنواع الفاخرة منها في فصل الربيع لارتدائها مع الزي الكوردي التقليدي في المناسبات القومية والاجتماعية، وخصوصاً أثناء أداء الدبكات الكوردية».
من جانبه، يضيف كاكه أحمد بالكايَتي، وهو بائع مخضرم للمسبحات، معلومات قيمة عن مصادر حبات القزوان. «تأتينا هذه الحبات من مناطق متعددة في كوردستان»، يقول بالكايَتي، «مثل پيره مگرون، وبارزان، وبالكايَتي، ورانيا وقلعة دزة». ويشرح بالتفصيل عملية تصنيع المسبحة: «بعض الحبات تُثقب مباشرة وتُنظم في خيط خاص، بينما يخضع البعض الآخر لعملية زخرفة وتزيين قبل التثقيب لإضفاء لمسة جمالية إضافية».
ويختم بالكايَتي حديثه بالإشارة إلى نوعين من أرقى أنواع القزوان: «لا سوره» و«لا رَشه»، التي قد يتجاوز سعرها 300 دولار أمريكي. ويؤكد على الهوية الكوردستانية الخالصة لهذا المنتج قائلاً: «حتى محاولات التقليد الصينية باءت بالفشل، فالبلاستيك لا يمكن أن يحاكي جمال وأصالة حبات القزوان الطبيعية».
وفي المناسبات الاجتماعية، سواء في مجالس العزاء أو احتفالات نوروز، يتباهى الكورد بنماذجهم النادرة من القزوان، ويتبادلونها كهدايا ثمينة تعبر عن عمق العلاقات الاجتماعية. وقد أصبحت هذه المسبحة علامة مميزة لا تنفصل عن مشهد الدبكات الكوردية التقليدية، حيث تتراقص في أيدي الراقصين بإيقاع متناغم مع خطواتهم.
ولا تكتمل أناقة الرجل الكوردي في المناسبات الاجتماعية إلا بمسبحة قزوان طويلة تتدلى من يده، تتراوح أسعارها حسب جودة صناعتها وجمال تصميمها وتناسق حباتها، وقد تصل قيمة القطع النادرة منها إلى 300 دولار أمريكي. وهكذا، يستمر القزوان في نسج خيوط التواصل بين الماضي والحاضر، محافظاً على مكانته كرمز للتراث الكوردي الأصيل.
رياض الحمداني: صحفي ومؤلف عمل في العديد من المؤسسات الإعلامية المحلية الدولية