أكد باحث كوردي أن التنقيبات الأثرية أثبتت أن أقدم الدلائل على الاستيطان البشري في التاريخ تعود إلى قرية «بيستان سور» (البستان الأحمر) في محافظة السليمانية، مشيراً إلى أنها شهدت بداية الثورة الزراعية.
أرض بدايات الإنسان
وتزخر منطقة كوردستان بالعديد من المواقع الأثرية المهمة الحبلى بالأسرار المدهشة عن بدايات الإنسان ومسيرته الحافلة عبر التاريخ. و تدهشنا اكتشافات علماء الآثار في كل يوم بما تظهره لنا معاولهم وأبحاثهم سواء في الميدان أم في المختبرات أم من خلال ما ينشرونه.
ومن هذه المواقع الملفتة للنظر اكتشاف موقع «بيستان سور» في سهل شهرزور، الذي يقع على بعد 33 كلم جنوب شرق السليمانية، ويبلغ ارتفاعه حوالي 550 متراً عن مستوى سطح البحر، الذي زودنا بكم هائل من المعلومات بشأن تلك البدايات. ومن ذلك طرق عيشهم، ومصادر غذائهم، وعاداتهم الاجتماعية، وفنون عمارتهم بل وأمراضهم وما كانوا يعانون منه، حيث عثر في «بيستان سور»، على العكس من چرمو، على العديد من الهياكل العظمية لموتاهم، ما يعد ثروة هائلة من المعلومات التي يمكن تقديمها للمجتمع العلمي.
كل ذلك بفضل اكتشافات الفريق الآثاري الذي ما يزال يعمل هناك بجد منذ نحو عقد من الزمن، حيث أظهرت اكتشافات الموقع أنه أقدم بعدة قرون من القرية الشهيرة التي سبقتها في الكشف عن أسرارها، ونعني بها صنوها (چرمو) قرب چمچمال في السليمانية أيضاً، التي يرجع تاريخها إلى سنة 7000 قبل الميلاد. وقد دفع ذلك بالباحثين إلى العودة إلى چرمو وسبر بعض النقاط فيها للتأكد من ذلك، حيث أدت حفرياتهم، إلى اكتشاف بعض الآثار التي أكدت أنها كانت معاصرة لـ«بيستان سور»، وما يزال الموقعان، كما المواقع الأخرى، غنيان بآثارهما وكريمان في عطائهما للباحثين والبشرية.
أقدم استيطان بشري
وقال الباحث الآثاري د. هاوار نجم الدين هواس، إن الدراسة التي أجراها فريق من جامعة هايدلبرغ الألمانيةHeidelberg University ومديرية آثار السليمانية «أثبتت أن أقدم الدلائل على الاستيطان البشري في سهل شهرزور تعود إلى منطقة تل بيستان سور»، مبيناً أن خصائص تلك المنطقة وما تتميز به من عوامل طبيعية، كخصوبة الأرض ووفرة المياه، كانت من «الأسباب الرئيسية للاستيطان فيها».
وأضاف أن التل «سجل كموقع آثاري لأول مرة من قبل مديرية الآثار العراقية في عام 1947 وقد أجريت التنقيبات والمسوحات الأثرية عليه بين عامي 2011 و2012 من قبل فريق بريطاني برئاسة رئيس قسم الآثار في جامعة ريدينغ University of Reading البروفيسور روجر ماثيوس (مواليد 1954) وزوجته ويندي ماثیوس»، لافتاً إلى أن الفريق الآثاري البريطاني «تمكن من حفر 13 حفرة على سطح التل والمناطق المحيطة به والتعرف على منزلين من المنازل التي كانت موجودة هناك، وكانت أجزاؤها عبارة عن جدران مستقيمة مربعة وغرفها صغيرة مستطيلة الشكل استخدمت حسب الحاجة بسبب تنوع الأنشطة والاحتياجات البشرية في تلك المرحلة».
وأوضح هواس، أن بعض الغرف التي عثر عليها في التل كانت «تستخدم للنوم وأخرى أصغر حجماً تتراوح أبعادها من متر إلى مترين للتدفئة كما تم استخدام بعضها الآخر كمستودعات»، منوهاً إلى أن تلك المنازل «تميزت بخصائص منازل العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار »أو النيوليت قبل الفخار Pre-Pottery Neolithic (اختصاراً PPN ) ويعد بدايات العصر الحجري الحديث في منطقة المشرق وأعالي بلاد ما بين النهرين من الهلال الخصيب، ويرجع تاريخه إلى نحو 12000 إلى 8000 سنة مضت، أي 10000- 6500 قبل الميلاد)».
بداية الزراعة
وأورد الباحث الآثاري أن الإنسان «خطى خطوات كبيرة في بداية العصر الحجري الحديث من مرحلة الجمع إلى مرحلة الإنتاج أي من عملية الجمع والصيد إلى الزراعة وتربية الماشية ما أثر على حياته لأن النباتات والحيوانات هي المصدر الرئيس للغذاء والاقتصاد البشري»، مشيراً إلى أن علماء الآثار «اهتموا بهذه الجوانب بنحو كبير وحصلوا على العديد من الأسرار والمعلومات المهمة عن حياة الإنسان خلال تلك الحقبة الزمنية المبكرة».
ومضى د. هاوار هواس قائلاً إن أعمال التنقيب في ذلك الموقع «أسفرت عن الحصول على عينات نباتية أظهر البحث أنها عبارة عن حبوب وبذور وقشور جوز ودلائل على أن قصب السكر كان منتشراً على نطاق واسع في المنطقة حينها خاصة في بداية العصر الحجري الحديث (4500 – 9000 قبل الميلاد أو العصر النيوليثي Neolithic وهو المرحلة الثانية من عصور ما قبل التاريخ)، وأن النباتات كانت مصدراً مهماً لغذاء أهالي بيستان سور»، مؤكداً على أن تحليل تلك العينات والنباتات في المختبرات الأمريكية «أثبت أن النباتات والبذور التي استخدمها أهالي منطقة بيستان سور في تلك الحقبة التاريخية تشكل بداية التعرف البشري علي الزراعة».
تدجين الحيوانات
وأضاف هواس أن البحث التفصيلي عن بقايا الحيوانات في تل «بيستان سور»، «أظهر هو الآخر أن أهالي المنطقة أولوا الحيوانات اهتماماً كبيراً واتخذوا خطوات لتدجينها والاستفادة منها لأغراض اقتصادية والحصول على الغذاء اليومي فضلاً عن الاستفادة من فرائها وجلودها»، موضحاً أن الفريق الآثاري «جمع حوالي 12013 نوعاً مختلفاً من العظام وأثبت أنها تعود للأبقار والغزلان الحمراء والماعز والأغنام والخنازير والثعالب والثديّات والطيور والسلاحف والأسماك والفئران المنزلية».
وأورد هواس أن أنواع الحيوانات الموجودة في الموقع «هي نفسها التي كانت موجودة في جنوب غرب آسيا في ذلك الوقت وأهمها الأغنام والماعز والأبقار والخنازير»، لافتاً إلى أن اكتشاف تلك العظام «مكن الفريق الآثاري من الإجابة عن العديد من الأسئلة المتعلقة بالأنشطة البشرية اليومية في الموقع مثل عملية صيد الحيوانات وذبحها وإعداد الطعام فضلاً عن ملاحظة العلاقات الإنسانية وحقيقة أن البشر قاموا بتدجين الحيوانات وتربيتها في تلك المرحلة والمراحل الأخيرة من حياة الإنسان في قرية بيستان سور بنحو عام».
معتقدات الدفن وطقوسه
وقال د. هاوار هواس إن الفريق الآثاري «أولى المعتقدات الجنائزية في تلك المنطقة اهتماماً خاصاً لاسيما بعد أن عثر على حوالي 81 هيكلاً عظمياً بشرياً أكثر من نصفها تعود لأطفال، وكان العديد منها عبارة عن جماجم فقط وذلك في الحفرة رقم (10) والبيت رقم (5) والحجرة رقم (50). وأطلقوا على ذلك البيت تسمية بيت الموتى ما وفر صورة واضحة للجوانب الاجتماعية والدينية والاقتصادية للحياة البشرية في تلك المرحلة، ومهد الطريق لكشف العديد من الألغاز الأخرى لحياة البشر في تلك المرحلة»، منوهاً إلى أن من بين الأمور التي لفتت انتباه الفريق الآثاري «وجود المغرة التي هي عبارة عن محلول أحمر (Ochre) على شكل دم على بعض الجماجم التي عثر عليها في المنطقة ما عده دليلاً على الحيوية أو يبدو أنها تعود لشخصيات بارزة ذات مكانة عالية».
يذكر أن عادة صبغ وجوه الأموات بالمغرة الحمراء، كانت من العادات الشائعة التي عثر على ما يماثلها في مواقع الآثار الأخرى في الشرق الأدنى خلال الحقبة نفسها.
ومن الجوانب الأخرى المثيرة للاهتمام في المقابر التي عثر عليها في المنطقة، والكلام دائماً للدكتور هواس، «البقايا الأثرية التي وجدت مع الجثث أو حولها»، مبيناً أن مجموع تلك الاكتشافات «تعرف بموضوع القبر بنحو يمكن معه القول إن هذه القضية بدأت في البشر في تلك المرحلة».
جهد ترويجي مطلوب
إن وجود مثل هذه المواقع الأثرية تدلل بنحو جلي على عراقة كوردستان الحضارية، وهو ما ينبغي للجهات المعنية أخذه بالاعتبار، والعمل على الترويج لها والتعريف بها عالمياً، وإنتاج أفلام سينمائية أو وثائقية عنها بالتعاون مع كبريات الوكالات أو الشركات الدولية المتخصصة، منها «ناشيونال جيوغرافيك» على سبيل المثال لا الحصر، لتكون من عوامل الاستقطاب السياحي كما هو الحال في باقي دول العالم الغنية آثارياً.
سيرة ذاتية
يذكر أن هاوار نجم الدين هواس، حاصل على شهادة دكتوراه في تخصص ما قبل التاريخ، من جامعة صلاح الدين، ويعمل مديراً فنياً لمشروع بناء المتحف الدولي في محافظة أربيل، وشارك بأربعة مواسم تنقيب مع بعثة جامعة «ريدينغ» البريطانية في موقع تل «بيستان سور»، وبموسمين للتنقيب مع بعثة جامعة «شيكاغو» الأمريكية في موقع تل سوريژة الأثري في أربيل.
باسل الخطيب: صحفي عراقي