في حضن جبال كوردستان العراق، وعلى بعد نظرة من سفوح ترتفع شامخة نحو السماء، تستيقظ مدينة عقرة التي تسمى بالكوردية (ئاكرێ، Akrê) مع أول خيوط الفجر. هنا، حيث تتعانق قصص الأجداد مع أحلام الأحفاد، تستعد المدينة القديمة لاستقبال ضيف يتردد على أبوابها كل عام منذ آلاف السنين، إنه نوروز، عيد الربيع والتجدد، الذي اختار هذه المدينة الصغيرة لتكون عاصمته.
تتسلل نسمات آذار بين الأزقة الضيقة، محملة برائحة الخبز الكوردي الطازج والأعشاب البرية التي تغطي سفوح الجبال المحيطة. وبينما تستيقظ المدينة، يمكنك رؤية شباب يحملون مشاعل من عصي خشبية، يتحركون بهدوء ودأب، يجهزون مشاعلهم التي ستضيء الليل القادم.
«نوروز في عقرة هو لحظة اتصال بين ماضينا وحاضرنا»، تقول ناسك أمين، معلمة التاريخ. «كل شخص له دور في الاحتفال، من الطفل الذي يجمع الورود البرية، إلى الشاب الذي يصنع المشعل، إلى كبير السن الذي يروي الحكايات. نحن لا نحتفل فقط، بل نعيد إحياء هويتنا في كل عام».
ويروي أمين سليم، مدير سياحة عقرة، لمجلة «كوردستان بالعربي» أن «منح دولة رئيس الوزراء مسرور بارزاني عقرة لقب (عاصمة نوروز) لم يكن مجرد تسمية، بل كان اعترافاً بتاريخ وتراث امتد لآلاف السنين».
ويضيف: «أصبحت مدينتنا الصغيرة وجهة يقصدها الزوار من شتى بقاع الأرض. تخيل أن ترى مصورين من اليابان والبرازيل وألمانيا يتجولون في أزقتنا القديمة، ويوثقون لحظات الاستعداد للعيد، وكيف يقوم شبابنا بتحضير المشاعل التي ستضيء سفوح الجبال».
هذا التحول جعل المدينة «قبلة للمدونين واليوتيوبرز العالميين» الذين «ينقلون للعالم كيف تستعد عقرة للاحتفال، وكيف يتفانى شبابنا في تنظيم وترتيب المشاعل التي ترسم لوحة من النور على جسد الليل».
لكن هذا النجاح لا يخلو من تحديات. «نواجه صعوبات مالية حقيقية»، يعترف سليم. «نتمنى تخصيص ميزانية خاصة تليق بهذه المناسبة، وبمستوى الزوار الذين يشرفوننا من سفراء ودبلوماسيين مقيمين في العراق. طموحنا أكبر من إمكاناتنا الحالية».
ويفتخر سليم بالوعي البيئي لشباب المدينة الذين «تخلوا طواعية عن ظاهرة حرق إطارات السيارات التي كانت تقليداً قديماً، واستبدلوها بمشاعل وألعاب نارية أكثر صداقة للبيئة. هذا التحول يعكس تطور وعينا الجماعي».
ويكشف عن خطة طموحة «لتحويل احتفال نوروز إلى كرنفال يمتد لأيام، تتخلله فعاليات متنوعة، ثقافية وفنية ورياضية. نريد أن يتذوق زوارنا الثقافة الكوردية بكل أبعادها».
يختتم سليم حديثه بكلام يلخص فلسفة عمله: «في عقرة، نوروز ليس مجرد تقليد نحتفل به كل عام، بل هو جسر نعبر من خلاله نحو العالم، حاملين معنا تراثنا، وفاتحين أذرعنا لضيوفنا الذين نعتبرهم جزءاً من قصتنا المستمرة».
الصحفي عبد الحميد زيباري يذكر أن «إشعال إطارات السيارات في الماضي كان يرتبط بطابع التحدي ضد النظام العراقي السابق الذي منع الاحتفال بعيد نوروز. أتذكر جيداً خلال الثمانينات كيف كنا نجمع الإطارات سراً ونحملها إلى الجبال لإشعالها رغم تدخلات عناصر النظام».
ويضيف: «اليوم، وبعد تحول نوروز إلى مناسبة رسمية، بدأ الناس يفكرون في بدائل أكثر أماناً وصداقة للبيئة».
ويؤكد زيباري الأثر الاقتصادي الإيجابي للاحتفالات التي «ساعدت على إنعاش السوق القديم والذي كان يعاني من الكساد»، مشيراً إلى «نمو ملحوظ في أسواق المنتجات المحلية كاللبن والجبن والعسل، مما يبشر بمستقبل واعد لعقرة سياحياً واقتصادياً».
«هنا في عقرة، نوروز ليس مجرد احتفال، بل هو قصة تتجدد مع كل ربيع»، هكذا يقول العم هوشيار، أحد كبار السن في المدينة، وهو يراقب حفيده يلف القماش حول عصا من خشب البلوط، لصنع مشعل: «كانت جبالنا قديماً تشتعل بنيران الإطارات، تراها من مسافات بعيدة كأنها عقد من الجواهر حول عنق الليل. اليوم، نحن نكتب فصلاً جديداً من القصة ذاتها».
ومع الغروب، يبدأ المشهد الأكثر سحراً حين يتسلق مئات الشباب، حاملين مشاعلهم، الجبال المحيطة. وعندما تُطلق الشرارة الأولى، تبدأ خطوط النور الذهبي بالتشكل، مخبرة قصة متجددة من قصص نوروز في عاصمة الربيع والضوء.
رياض الحمداني: صحفي ومؤلف عمل في العديد من المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية