مصطفى البارزاني الكاريزما الشخصيّة والواقعيّة السياسيّة
مصطفى البارزاني الكاريزما الشخصيّة والواقعيّة السياسيّة

مقدمة

 خلال وجوده في أربيل وبُعيد حفل تكريمه من جانب مؤسسة الدكتورة الشاعرة سعاد الصباح وبالتعاون مع مؤسسة «كوردستان كرونيكل»، اقترح الدكتور عبد الحسين شعبان تنظيم جولة في ربوع كوردستان له وللوفد المرافق، وهو ما تمّ يوم 18 كانون الأول / ديسمبر 2024.

وزار الوفد المكوّن من عدد من الشخصيات العربية من بلدان مختلفة، إضافة إلى الطيف الثقافي العراقي، متحف البارزاني الخالد في منطقة بارزان، وهناك ألقى شعبان كلمة مؤثرة استهلها بالتاريخ وتوسطها الحديث عن الحقوق بما فيها حق تقرير المصير، إضافة إلى التضحيات الكبيرة التي اجترحها الشعب الكوردي، وما ناله من حيف وظلم، وصولاً إلى الحاضر باستشراف المستقبل، الذي يتمكّن فيه الشعب الكوردي من تحقيق أهدافه كاملة.

وتوقّف شعبان عند عدد من المحطات النضالية، بما فيها اللقاء التاريخي بالملّا مصطفى البارزاني، وربّما هو من العرب القلائل الأحياء ممّن واتتهم الفرصة للقاء البارزاني، وهو ما أثار الكثير من الأسئلة من جانب الحضور المتنوّع، وهذه الأسئلة أخذت تتوالد لأسئلة أخرى.

تنتهز مجلة «كوردستان بالعربي» لتقدّم للقرّاء العرب مادة كتبها شعبان بمناسبة الذكرى اﻟ46 لرحيل القائد الخالد للأمة الكوردية، ونستسمحه والقراء لنقتبس من دراسته الموسومة «مصطفى البارزاني... في ذكرى رحيله السادس والأربعين: الكاريزما الشخصيّة والواقعيّة السياسيّة» فقرات ضافية توسيعاً للفائدة وإجابةً على بعض الأسئلة التي وردت على لسان ضيوفنا، مع تحياتنا للمفكر الدكتور شعبان ومواقفه المتضامنة دائماً مع شعبنا الكوردي، الذي يعدّه صديقاً حميماً وصادقاً.

إذا كان من الممكن القول إن الرواية الروسية خرجت من معطف نيقولاي غوغول، فربما يمكن القول إن الحركة الكوردية المعاصرة نشأت من «جَمَداني» (الكوفية الكوردية) الملا مصطفى البارزاني في سياق تاريخ الدولة العراقية الحديثة. ورغم أن هذا القول ينطبق بشكل خاص على الحركة القومية الكوردية التحررية في العراق، إلا أنه ليس بعيداً عن بقية أجزاء كوردستان، نظراً للدور البارز للبارزاني والمكانة التي حظي بها لدى عموم الأمة الكوردية. فقد استطاع، بفضل شخصيته القيادية وحنكته السياسية، أن يحقق إنجازات مهمة للكورد، رافعاً قضيتهم إلى مستوى غير مسبوق في الساحة السياسية، رغم التعقيدات الدولية والظروف الصعبة التي أحاطت بالقضية الكوردية، خاصة خلال الحرب الباردة وغيابها عن الأجندة الدولية منذ معاهدة لوزان 1923 وحتى قرار مجلس الأمن 688 عام 1991، الذي أكد ضرورة احترام حقوق الإنسان في العراق.

امتلك البارزاني خصالاً قيادية نادرة، مستنداً إلى إرث عائلته ذات النفوذ الديني والسياسي، والتي خاضت نضالات طويلة ضد السلطات العثمانية ثم البريطانية. نشأ في بيئة صعبة، حيث اعتُقل مع والدته وهو في الثالثة من عمره، وأُعدم شقيقه عبد السلام، مما جعله يكبر في ظل المقاومة والنضال المستمر. شارك في العديد من الانتفاضات، بدءاً من الثورة الكوردية في تركيا (1917 - 1919) إلى انتفاضة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية (1919)، كما كان له دور محوري في ثورات بارزان المتكررة منذ الثلاثينات.

خلال الحرب العالمية الثانية، تمكن من الفرار إلى إيران عام 1943، ثم قاد حركة بارزان (1943 - 1945)، التي مهدت لتأسيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني عام 1946. كما شارك في الدفاع عن جمهورية مهاباد الكوردية بإيران، وعندما سقطت هذه الجمهورية أُجبر على اللجوء إلى الاتحاد السوفييتي حيث بقي 12 عاماً في المنفى. عاد إلى العراق عام 1958 بعد ثورة 14 تموز، حيث استُقبل بحفاوة، والتقى جمال عبد الناصر في طريق العودة، ليؤكد أهمية التآخي العربي - الكوردي.

رغم أن الحكومات العراقية والإيرانية كانت قد حكمت عليه بالإعدام ورصدت مكافآت للقبض عليه، إلا أن نفوذه ظل يتزايد، وأصبح شخصية محورية في المشهد السياسي العراقي. لم يكن بالإمكان استبعاده من أي حل للأزمة السياسية في العراق، ولذلك سعت الحكومات المتعاقبة إلى التشاور معه قبل الإقدام على أي خطوة سياسية كبرى.

كان البارزاني قائداً استثنائياً، يجمع بين الصلابة والمرونة، وبين الكبرياء القومي والاحترام العميق للأمم الأخرى. ورغم كونه ثائراً عسكرياً، إلا أنه كان رافضاً للعنف ضد المدنيين، واشتهر بمبدأ «العفو عند المقدرة». بعد محاولة اغتياله عام 1971، رفض مبدأ الانتقام، مؤكداً أن الجرائم لا تبرر بجرائم مماثلة. 

حرص البارزاني على إبقاء الثورة الكوردية نزيهة، بعيدة عن الإرهاب والتخريب، مما دفع المستشار النمساوي برونو كرايسكي إلى وصفها بأنها «ثورة نظيفة». وكان يتعامل بمرونة مع خصومه، حتى مع الذين عملوا لصالح الحكومات العراقية ضد الحركة الكوردية، ساعياً إلى استيعابهم بدلاً من معاقبتهم.

أدرك البارزاني أهمية ربط القضية الكوردية بالديمقراطية العراقية، حيث لا يمكن تحقيق حقوق الكورد من دون إصلاح النظام السياسي في العراق. هذا الفهم العميق تجلى في دعوته إلى التآخي العربي - الكوردي، وإلى حل القضية الكوردية ضمن إطار وطني ديمقراطي شامل. وقد أثبتت الأحداث أن غياب الديمقراطية كان العائق الأكبر أمام حل عادل للمسألة الكوردية، إذ كانت الحكومات المتعاقبة تفضل الحلول العسكرية والاستبدادية بدلاً من الاعتراف بالحقوق المشروعة للكورد.

رغم وفاته في المنفى عام 1979، عاد جثمانه إلى كوردستان عام 1993، حيث استقبل استقبالاً شعبياً مهيباً، وأصبح قبره مزاراً يعكس ارتباط الكورد بقضيته ونهجه. لقد ترك البارزاني إرثاً سياسياً لا يزال مؤثراً في المشهد الكوردي والعراقي، كونه قائداً دمج بين الواقعية السياسية والإيمان الراسخ بحقوق شعبه.

الفهم الملتبس للفيدرالية في العراق: بين الوحدة والحقوق

منذ أن اختار البرلمان الكوردستاني الفيدرالية في عام 1992، كانت القضية موضوعاً محورياً في الساحة السياسية العراقية، حيث كان القرار بمثابة إقرار بالأمر الواقع في ظل الوضع المعقد الذي كان يعيشه إقليم كوردستان. ورغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على ذلك الاختيار، لا تزال المسألة مثار جدل بين الفرقاء السياسيين، على الرغم من تبدل مواقفهم من الفيدرالية. ففي حين كان البعض يعتبرها تهديداً لوحدة العراق، أصبح آخرون من أبرز المؤيدين لها.

على الرغم من الاعتراف الدولي بالفيدرالية في بعض دول العالم، إلا أن تطبيقها في العراق لا يزال يثير إشكاليات عملية ومنهجية قد تؤدي إلى استمرار الصراعات السياسية. هناك من يرى أن الفيدرالية ليست فقط ضماناً لحقوق الكورد، بل هي في الوقت ذاته تأكيد على انتمائهم للعراق ووحدته. وفي هذا السياق، يرى العديد من المتابعين أن التحدي الأكبر يكمن في إيجاد توازن بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كوردستان بما يضمن حقوق جميع الأطراف ويعزز من اللحمة الوطنية.

الفيدرالية.. حل أم تحدٍّ؟

الفيدرالية، كما يراها العديد من الحقوقيين العراقيين، وسيلة للحفاظ على وحدة الدولة العراقية وتوضيح العلاقة بين مكوناتها المختلفة. بالنسبة للكورد، هي خطوة نحو ضمان حقوقهم المستقبلية بعد عقود من الاضطهاد. ولكن، وفقاً للمراقبين، فإن نجاح هذه الفيدرالية مرهون بتقوية الشراكة بين العرب والكورد وتحديد المسؤوليات والسلطات بشكل عادل ومنصف.

في هذا السياق، يشير العديد من القادة السياسيين الكورد إلى أن تعزيز العلاقة العربية - الكوردية يجب أن يكون على أساس من الاحترام المتبادل والشراكة الحقيقية، بعيداً عن أي تدخلات طائفية أو مذهبية قد تؤدي إلى تقسيم العراق. وفي هذا الإطار، يشدد البعض على ضرورة أن تلتزم الفيدرالية بمبادئ العدالة والمساواة، مع ضمان حرية الاختيار للكورد في تحديد شكل علاقتهم مع الدولة العراقية.

تقرير المصير وحقوق الكورد

مفهوم حق تقرير المصير يبقى إحدى القضايا الجوهرية التي لم تحسم بعد في العلاقة بين العرب والكورد. على الرغم من أن الاعتراف بحق تقرير المصير للكورد قد يبدو خطوة حساسة، إلا أن العديد من الأصوات ترى في ذلك جزءاً من الحل، إذ يتطلع الكورد إلى ضمان حقوقهم ومكانتهم داخل العراق الموحد. ويؤكد حقوقيون أن القبول بهذا الحق لا يعني التنازل عن وحدة العراق، بل هو تعبير عن التقدير لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها.

ويختتم الخبراء بالقول إن الحلول المستقبلية يجب أن تكون مبنية على أسس عادلة تشمل جميع المكونات العراقية، مع وضع آلية تحافظ على حقوق الكورد ضمن الدولة العراقية. كما يجب أن تكون الفيدرالية إطاراً لتقوية الوحدة الوطنية، بعيداً عن الانقسامات الطائفية والمذهبية التي قد تضعف الدولة العراقية وتقودها إلى التفكك.

مع البارزاني في گلالة.. بين الذاكرة والواقع

بعد 33 عاماً من وفاة الزعيم الكوردي مصطفى البارزاني، أسترجع ذكرياتي معه عندما التقيته في مقرّه في گلالة. كانت زيارتي برفقة وفد مهنّئ لبيان 11 آذار / مارس 1970، حيث قدمنا الشكر على هذه الخطوة التاريخية، لكنني كنت أيضاً قد ناقشت مع البارزاني بعض التجاوزات الحكومية التي طالت قوى وشخصيات يسارية وقومية وليبرالية. كان ردّه حاسماً، حيث ندد بالإرهاب، مؤكداً أن إقليم كوردستان لا يمكن أن يتعافى إلا إذا تحسنت الأوضاع في العراق بشكل عام.

لم يكن البارزاني ليغفل عن أهمية الدبلوماسية، بل كان دائماً شديد الحساسية تجاه أي مظاهر من القمع والظلم. ففي رسالة تضامنية وجهها بعد أسابيع من بيان 11 آذار، محذراً الحكومة العراقية من مغبة الانحراف عن الطريق الصحيح، أظهر البارزاني إصراراً على أنه لن يتوانى عن بذل كل ما في وسعه لوقف الممارسات الإرهابية والظالمة التي كانت تمارس ضد مختلف القوى الوطنية. كانت هذه الرسالة من أهم المواقف السياسية التي أعلن فيها البارزاني عن رفضه القاطع للظلم، مشدداً على ضرورة إيجاد حلول حقيقية للاختلالات السياسية. 

عراقي الهوية وكوردي الانتماء

البارزاني كان نموذجاً فريداً للقيادة، فهو عراقي الهوية وكوردي الانتماء، يجمع بين الوطنية والقومية بشكل متوازن. امتلك القدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة والنظر إلى المدى البعيد، مع الحفاظ على الوفاء العميق لشعبه وقضيته. كان، رغم كل الضغوط السياسية والضغوط الدولية، قادراً على التمييز بين الأمور الجوهرية، فكان مخلصاً لقضية شعبه ولكن على أساس من الواقعية السياسية.

وإذا كانت هناك قصيدة شهيرة للشاعر الجواهري في عام 1964، فقد صاغ فيها كلماتٍ رددها البارزاني مراراً، حيث قال:

 قلبي لكوردستان يُهدى والفمُ

ولقد يجود بأصغريه المعدمُ

معبراً عن ارتباطه العميق بكوردستان وشعبها، ومؤكداً أن هذه الأرض كانت دائماً في قلبه، ولن يساوم على حقوقها.

الدروس من تجربة البارزاني: دراسة وتجديد الرؤية

أختتم هذا المقال بالتأكيد على ضرورة دراسة تجربة البارزاني في سياقها التاريخي، وإجراء ورش عمل ودراسات عميقة حول آرائه السياسية والعسكرية والاجتماعية، سواء في فترة المنفى أو أثناء قيادته الفعلية للحركة الكوردية. من خلال هذه الدراسات، يمكن فهم التحديات التي واجهها والتفاوضات الصعبة التي خاضها، لا سيما في الفترة التي سبقت وبعد نكسة 1975، مع التركيز على التواطؤ الإيراني - الأمريكي.

وتعد هذه الدراسات ضرورة لتسليط الضوء على آراء البارزاني في العلاقات الدولية، وخصوصاً في السياق الكوردي، حيث لا بد من حفظ هذا التراث للأجيال القادمة للاستفادة منه، وذلك لتعزيز نضال الشعب الكوردي من أجل حقوقه الأساسية، وفي مقدمها حق تقرير المصير.

حق تقرير المصير في إطار التحولات الديمقراطية

من هذا المنطلق، يبرز ضرورة وجود حوار بين الأمم الأربع في المنطقة: العربية، التركية، الفارسية، والكوردية، لتحقيق الأمن الإقليمي. فبدون إقامة علاقات قائمة على المساواة والتكافؤ بين هذه الأمم، لا يمكن أن تنعم المنطقة بالسلام والتنمية المستدامة.

الحديث عن الحقوق الكوردية لا يمكن أن يكتمل من دون الإشارة إلى أن الأمة الكوردية هي الوحيدة في المنطقة التي لم تتمكن من إقامة دولة مستقلة لها، على الرغم من معاناتها من الاضطهاد والتهجير تحت مختلف الأنظمة. ومن هنا، فإن قيام أنظمة ديمقراطية حقيقية في دول المنطقة يعد الحل الوحيد لضمان حقوق الكورد، وهو ما يمكن تحقيقه فقط عبر التحولات الديمقراطية في المنطقة.


عبد الحسين شعبان: أكاديمي ومفكر




X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved