مركز النجف الأشرف التأليف والتوثيق والنشر من أهدافه كتابة تاريخ يعتمد على الوثائق وتوثيق الحوادث بأمانة ودقة. فيتميز هذا المشروع برؤية فريدة تعتمد على المصادر الوثائقية الموثوقة، بعيداً عن التأويلات الشخصية أو الأفهام المتحيزة للمؤرخين. ويسعى المركز إلى تقديم سردٍ تاريخي موضوعي يعكس الأحداث كما وقعت، مما يضمن للأجيال القادمة معرفةً رصينة بتاريخ مدينتهم العريق.
من خلال جمع وتحليل الوثائق الأصلية، يعيد المركز رسم صورة واقعية لماضي النجف الأشرف، موفراً مرجعاً موثوقاً للباحثين والمهتمين بالتاريخ، وشعاره توثيق الحقيقة كما كانت، لا كما فُهمت.
ومن هذا المنطلق يسعى المركز لنشر بحوث عديدة تكون مصداقاً لمشروعه، ومن هذه البحوث التي نقدمها للقارئ الكريم هو هذا البحث المهم الذي يبين علاقة الكورد بالشعوب العربية، وركزنا على القضية المهمة وهي القضية الفلسطينية. وسميناه «الكورد والقضية الفلسطينية.. موقف الكورد من قرار تقسيم فلسطين عام 1938 أنموذجاً».
لطالما لعب الكورد دوراً محورياً في تاريخ العراق والمنطقة، وكان لهم مواقف سياسية تعبّر عن ارتباطهم بالقضايا الوطنية والقومية والدينية. ومن بين القضايا التي تفاعلوا معها بوضوح قضية فلسطين، حيث أظهرت الوثائق التي يحتفظ بها مركز النجف الأشرف للتأليف والتوثيق والنشر أن بعض الجهات الكوردية وجهت برقيات إلى الحكومة العراقية تؤيد موقفها الرافض لمشروع تقسيم فلسطين عام 1938. يستعرض هذا البحث هذه الوثائق ويحاول أن يسلط عليها الضوء.
السياق التاريخي لقرار التقسيم عام 1938
شهدت القضية الفلسطينية تطورات متسارعة خلال النصف الأول من القرن العشرين، حيث أصدرت بريطانيا وعد بلفور عام 1917، ثم فرضت الانتداب البريطاني على فلسطين، ما أدى إلى تصاعد المقاومة العربية الإسلامية. وفي عام 1937، قدمت لجنة بيل البريطانية اقتراحاً بتقسيم فلسطين إلى دولتين، لكن المشروع قوبل برفض واسع من العرب، ومن بينهم العراق. وفي عام 1938، تجددت محاولات التقسيم، ما أثار ردود فعل مختلفة داخل العراق، بما في ذلك من الكورد.
موقف الكورد من تقسيم فلسطين:
تشير الوثائق إلى أن شخصيات كوردية وكيانات سياسية تواصلت مع الحكومة العراقية للتعبير عن دعمها لموقفها الرافض للتقسيم. وقد جاء هذا الدعم من منطلقات متعددة، منها:
البعد الديني والقومي: فقد اعتبر الكورد أن القضية الفلسطينية ليست مجرد مسألة سياسية، بل قضية تمس المسلمين والعرب، وكانوا يرون أن دعم العراق لفلسطين هو جزء من مسؤولية الأمة الإسلامية.
الولاء للدولة العراقية: رغم وجود مطالب كوردية بالحكم الذاتي أو الحقوق القومية، إلا أن الكورد كانوا حريصين على الحفاظ على وحدة العراق والوقوف مع حكومته في القضايا الإقليمية الكبرى.
الروابط التاريخية مع العرب: تربط الكورد علاقات قديمة مع العرب، وكان لهم دور في الجهاد ضد الاحتلال البريطاني وفي مقاومة المشاريع الاستعمارية. وقد أبرقت الشخصيات الكوردية في المناطق الكوردية وعشائرها برقيات رسمية تضمنت دعمهم لسياسة العراق تجاه القضية الفلسطينية.
ولم تقتصر على البرقيات بل المشاركة الواسعة للكورد في المظاهرات المنددة بمشروع التقسيم. وكذا ظهرت منشورات وصحف في المناطق الكوردية تندد بهذا التقسيم، ولا بأس في أن نستعرض بعض هذه البرقيات:
1) البرقية الواردة من قرة تبة وهي القرية العراقية التي تقع في محافظة ديالى وسكانها خليط من الكورد والتركمان والعرب، وقد وقع عليها رئيس عشيرة جاف المرحوم محمد رشيد وعشيرة جاف من العشائر الكوردية المعروفة.
وتنص الوثيقة على أنه «لقد جرى خبر تقسيم فلسطين الشقيقة كالبرق وأثرت في نفوس كضرب صاعقة والذي أسكن هياج الرأي العام هو استدراك حكومة جلالة ملكنا المعظم غازي الأول وتسرعها بإظهار مشاركتنا الشقيقة في آمالها ووعدها بالسعي برفع الحيف عنها. نرجو أن تصر حكومة جلالة الملك بكل الطرق الممكنة حتى الحصول على الوحدة العربية القومية التي ينتظرها العرب خاصة والإسلام عامة ولتسير بعزمها. الله معها والنصر حليفها والشعب ممدها بكل ما لديه من قوة.. من الأشراف بهجت، إبراهيم الطائي، رئيس عشيرة جاف محمد رشيد»1، 2، 3 .....الخ. وتبين هذه الوثيقة مدى تمسك الكورد بالقضية الفلسطينية من الناحية القومية والإسلامية.
2) البرقية الواردة من محافظة السليمانية من إدارتها وساداتها، وإليك نص الوثيقة: «نضم صوتنا إلى صوت فخامة الرئيس الجليل محتجين شديداً على المشروع المؤدي الى تجزئة فلسطين العزيزة بكل ما في الوسع لجعل تنفيذه مستحيلاً.
عبد القادر نائب السليمانية
جلال أحمد من السادات آل النقيب آل شيخ معروف غريب». 4...الخ.
3) البرقية الواردة من حلبجة، وإليك نص الوثيقة: «نؤيد بكل قوتنا فخامة الرئيس الجليل في خط الشريعة إزاء قضية فلسطين العربية
الحاج ملا علي حاج محمد علي أشراف أحمد بك». 5...الخ.
4) البرقية الواردة من السليمانية، وإليك نص الوثيقة: «ننادي بكل قوانا أولياء الأمور للقيام برفع الاحتجاج على مشروع تجزئة فلسطين المقترح مؤيدين فخامة رئيس الوزراء الجليل في خطته.
من العلماء بابا علي من العلماء ملا حسين» 6 .....الخ.
5) البرقية الواردة من قضاء كفري، وإليك نص الوثيقة: «لقد سادت القلوب وارتبكت الأفكار لخبر تقسيم فلسطين الشقيقة. وأن الرأي العام تقدم جزيل شكرها لرئيس حكومة جلالة ملكنا المفدى غازي الأول بتقديره ذلك وتسرعه بإخبار اللجنة العربية في القدس لعدم استحسانها للقرار غير العادل وإعلانه مشاركة فلسطين في أمانيها. فإننا نسترحم من حكومتنا الموقرة سعيها المتواصل لإرائة هذا المبدأ حتى الحصول على أماني فلسطين الشقيقة ورفع الحيف عنها. وأننا مستعدون لمعاضدة هذا السعي بما يفرضه الواجب الوطني والقومي.
رئيس عشيرة زنكنة محمد أديب من الأشراف
عبد الكريم الونداوي رئيس عشيرة الطالبان عبد الوهاب» 7 ، 8 ، 9....الخ .
هذه نماذج من البرقيات المرسلة وسوف نلحق باقي البرقيات نهاية البحث فإنها واردة من مختلف البلدات الكوردية ومن مختلف العشائر والأشراف، وهذه البرقيات لها دلالات على الموقف الكوردي. يؤكد هذا الموقف أن الكورد لم يكونوا بمعزل عن القضايا الوطنية، بل كانوا جزءاً من المشهد السياسي العام في العراق، ويظهر دعم الكورد لفلسطين انسجامهم مع القضايا العربية الكبرى، وهو ما ساهم في تعزيز العلاقات العربية - الكوردية، كما وتبرهن هذه الوثائق على أن رفض تقسيم فلسطين لم يكن موقفاً حكومياً فقط، بل كان مدعوماً من مختلف مكونات الشعب العراقي، بمن فيهم الكورد.
الخاتمة
يعكس دعم الكورد للحكومة العراقية ضد تقسيم فلسطين عام 1938 مدى تفاعلهم مع القضايا الوطنية والقومية، ويؤكد أنهم كانوا جزءاً فاعلاً في السياسة العراقية. كما أن هذه الوثائق تسلط الضوء على عمق العلاقات بين الكورد والعرب في العراق، وتبرز موقفاً مشرفاً للكورد في دعم القضية الفلسطينية.
لا تزال هذه المواقف التاريخية تشكل أساساً لفهم العلاقة بين الكورد والعراق والقضايا العربية الكبرى.
الشيخ محمد الكرباسي: مؤسس ورئيس مركز النجف الأشرف للتأليف والتوثيق والنشر