إحدى الصفات التي تتميز بها كوردستان هي أنها موطن للتعايش والتسامح بين مختلف أتباع الديانات المختلفة. فلطالما عاش فيها كثير من أتباع الديانات الكبيرة والصغيرة في تناغم وتصالح فيما بينهم.
الأديان الكبيرة التي يدين بها الكثيرون، مثل الإسلام والمسيحية واليهودية، معروفة لدى العوام والخواص فهي لا تختلف اختلافاً جذرياً سواء كانت في كوردستان أو في غيرها. أما الديانات الصغيرة (أي التي تدين بها أقليات صغيرة في كوردستان) مثل الإيزيدية والكاكائية (اليارسانية) والصابئة المندائية وحركة «حقة» والقرج والأرمن، فأغلبها - رغم وجود عدد من الكتب المؤلفة بشأنها - لا تزال يشوبها نوع من الغموض والأسرار وانعزال معتنقيها عن باقي مكونات المجتمع الكوردستاني.
لذلك شمّر الكاتب والباحث سمكو محمد عن ساعده وقرر أن يسبر أغوار هذه الديانات ويتحرى أصولها ومعتقداتها والفروق والتشابه فيما بينها. فنتج عن جهده المبذول كتاب باللغة الكوردية تحت عنوان «الذنب والإيمان... دراسة حول الجماعات الإثنية في كوردستان»، يشهد له الباحثون والكتاب والمتابعون بقيمته العلمية والفكرية. ونرجو أن يأتي يوم يُترجم فيه إلى العربية ولغات أخرى لتعميم الفائدة، ولتعريف مكونات كوردستان الدينية والمذهبية بالشعوب المجاورة والأجنبية.
في حوار مع الكاتب حول كتابه، سألت «كوردستان بالعربي» عن الدافع وراء هذا البحث وتأليفه للكتاب، فقال: في البداية أود أن أقول إن قصة هذا الكتاب بدأت عندما كنت أعمل صحافياً أقوم بإعداد تقارير في مثل هذه المواضيع. لكن بعد قراءة كتاب الباحث رشيد الخيون «الأديان والمذاهب في العراق»، جاءتني الفكرة وقررت البدء بتأليف كتاب للكورد حول نفس الموضوع لتثقيف القارئ الكوردي وتوعيته بالمكونات الدينية في كوردستان.
أما فيما يتعلق بعنوان الكتاب «الذنب والإيمان»، فقد سألنا الباحث عما وراء التسمية، فقال: في رأيي أن مفهوم «الذنب» واسع الدلالة والأبعاد، وهو مفهوم مرتبط ارتباطاً قوياً بالأديان التي تعتبره مقياساً لقوة وضعف إيمان الفرد، وأحياناً تُعتبر خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه. لأن الأديان في المجمل تتعامل مع الذنوب كدافع عَقَدي ونفسي للابتعاد عن السيئات والخطايا.
يُلاحظ في الكتاب أن الباحث تطرق إلى جماعات دينية مثل، الإيزيدية والكاكائية (اليارسانية) والصابئة المندائية وحركة حقة، وجماعات أخرى معروفة بأنها أقليات قومية أو إثنية مثل الأرمن والقرج. فهل وجد الكاتب تداخلاً وتماهياً بين القومية والديانة لدى بعض هذه الجماعات؟ سألناه فأجاب: «حول التداخل والتماهي في الانتماء إلى الديانة أو القومية، لاحظت في دراستي التي استغرقت أكثر من 17 سنة أن هناك نوعاً من العلاقة الباردة والخافتة بين الأديان فيما بينها، خاصة مثل العلاقة بين هذه الأديان والدين الإسلامي، وبالأخص بين الكاكائية والإيزيدية، وأيضاً بين الأرمن والصابئة المندائيين. لأن بعض هذه المكونات تمتلك هوية واحدة، وبعضها الآخر مثل الصابئة والأرمن والإيزيديين، لديهم هويتان، أي أنهم أصحاب هوية دينية، وهوية قومية في الوقت نفسه».
لدى بعض الباحثين وجهات نظر وآراء مفادها أن بعض هذه الديانات ما هي إلا معتقدات وطقوس خرجت من عباءة الدين الإسلامي، مع حذف لبعض الشعائر والطقوس الإسلامية والإبقاء على بعضها الآخر وبعض التغييرات في العقيدة وأداء الفرائض. فما الذي توصل إليه الباحث سمكو محمد بهذا الصدد؟ وما هي أقرب ديانة من هذه الديانات للدين الإسلامي. يرى الباحث أنه ما عدا الديانة البوذية، تتفق أغلب الأديان التي توجد في البلاد الآسيوية على مفهوم التوحيد الذي هو بمثابة القاسم المشترك بين الإسلام وبين الأديان الأخرى. فأهل الحقة والكاكائيون مثلاً يُلاحظ قربهم من الإسلام في بعض المعتقدات، لكن في الوقت نفسه مختلفون عنه في الاحتفال بالأعياد والصيام وفهمهم لنزول الإنسان الأول على البسيطة.
لكن كثيراً من أصحاب الديانات الموجودة في كوردستان يفضلون الانعزال والغموض وعدم الانكشاف على الآخرين من الناحية الدينية... فكيف ينظر الباحث إلى هذه الظاهرة؟ وما هي أسبابها في نظره؟
يقول سمكو: «صحيح... بعض أتباع هذه الديانات لا يكشفون للآخرين خفايا عقائدهم أو معتقداتهم وطقوسهم، ويحتفظون بها لأنفسهم. فهم يظنون أن هذه الأسرار والخفايا لو أُعلنت للآخرين، فستتسبب في إحداث بلبلة ومشاكل اجتماعية وعدم استقرار في الأمن الاجتماعي. ورغم أن إخفاء هذه المعلومات عن الغير يعين المكون الديني على البقاء والاستمرار، إلا أنه يؤدي - في الوقت نفسه - إلى التساؤل والشك والريبة تجاههم من قبل المسلمين وأتباع الديانات الأخرى.
ويرى الباحث أنهم لهم الحق في هذا الأمر. فـ«لطالما تعرضوا عبر التاريخ للاضطهاد وواجهتهم حملات التصفية بسبب تهم غير صحيحة تجاههم. فالإيزيديون، مثلاً، يُتهمون بأنهم «ليسوا نظيفيين بدنياً»، وتُنسب للكاكائيين تهمٌ أخلاقية، وتهمٌ أخرى للأرمن وأهل «الحقة». فكل هذه الصعوبات والمخاوف أعطتهم الشرعية في الإبقاء على تفاصيل ديانتهم تحت الغطاء، إلى درجة أنني لقيت صعوبات كثيرة لدى بحثي عن أجوبة لأسئلة مهمة ومحورية أثناء الكتابة».
ويرى الكاتب أن المجتمع الكوردستاني حتى يكون مجتمعاً يوصف بالتعايش فعلياً، فـ«ليس كافياً الاعتراف بهم في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية أو تخصيص مقاعد تمثلهم في البرلمان، بل ينبغي دمج هذه الجماعات مع بقية المكونات الأخرى وعدم السماح لعزلهم أو انعزالهم عن الآخرين. ولا يجوز النظر إليهم بنظرات دونية من قبل المكونات الأكبر منها».
هذه الديانات الموجودة في كوردستان تعتمد بعضها في معتقداتها وعباداتها وطقوسها على كُتُب مقدسة أو تعاليم مكتوبة في صُحُف يوجد الكثير من الجدل حولها بين الباحثين. فما هو رأي سمكو محمد في هذه الكتب والصُحُف؟ سألناه فقال: «فيما يتعلق بالكتب المقدسة، وهل لهذه الديانات كتب سماوية أو على الأقل نصوص مكتوبة، فقد حاولت كثيراً الحصول والاطلاع على بعض هذه الكتب التي يقدسونها وينتهجونها في عباداتهم، فلم أحصل على شيء. وإن كتابَي (جيلوه) و(مسحەفا رەش / المصحف الأسود) إنما يُنسبان إلى الإيزيديين من قبل بعض الباحثين والدارسين. والأمر نفسه بشأن كتابَي (دیوانە گەورە / الديوان الكبير) و(سەرەنجام / النتيجة العظمى) للكاكائيين فهما أقوال وردت على لسان رجال الدين أو الروحانيين وتداولتها الأجيال إلى أن طُبعت أخيراً ككتاب تحت عنوان (سەرەنجام)، لكنه بقي في عهدة الخواص وبعيداً عن تداول العوام، الأمر الذي جعل الإنسان العادي المنتمي لهذه الديانة يشعر بعقدة الذنب.. وهذا أحد الأسباب التي دفعتني إلى عنونة الكتاب باسم «الذنب والإيمان».
مسعود لاوه: صحافي من كوردستان العراق عمل سكرتير تحرير في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية لأكثر من عشرين عاماً، ومدير تحرير «كوردستان بالعربي»