عبدالحسين شعبان: رحلة فكرية بين النقد والتجديد
عبدالحسين شعبان: رحلة فكرية بين النقد والتجديد

في احتفالية مميزة، جمعت نخبة من المثقفين والمفكرين في النجف الأشرف يوم 5 آذار/مارس 2025، لتكريم أحد أعمدة الفكر العربي الحديث، الدكتور عبد الحسين شعبان، الرجل الذي لم يكن مجرد باحث أو مفكر، بل كان مشروعاً فكرياً متكاملًا، ناقداً لا يعرف التردد، ومجدداً لا يخشى كسر القوالب التقليدية، ومفككاً للأفكار ليعيد بناءها وفق رؤية عقلانية نقدية.

أن تكتب عن شخصية بهذا الزخم الفكري هو تحدٍّ بحد ذاته، فكيف يمكن اختزال نصف قرن من العطاء في كلمات؟ كيف يمكن أن تفي الحروف بحق رجلٍ جمع بين التنظير والممارسة، من أين أبدأ، وكيف أقدم شخصية فكرية تركت بصمتها في مجالات متعددة؟ وظل حتى اليوم أحد أبرز الأصوات التي لم تمل في طرح الأسئلة الكبرى، ولم تتردد في مواجهة المسكوت عنه في الفكر العربي؟

رأيت أن أفضل ما يمكن تقديمه في هذا الحفل هو إستعراض بعض ملامح فكره الجريء والنقدي، وتسليط الضوء على إسهاماته الفكرية والسياسية التي انطلقت من بيئته العائلية، مروراً بالحياة الجامعية، وانتهاءً بكونه أحد أبرز المفكرين العرب الذين جمعوا بين التنظير والممارسة.

البيئة والتكوين الفكري الأولي

انطلقت رحلة عبد الحسين شعبان الفكرية من بيئة عائلية تزخر بالكتب والصحف والمجلات، حيث كان الكتاب محور حياته منذ الطفولة. هذه النشأة الثقافية ساهمت في انخراطه المبكر في العمل السياسي والجماهيري، حيث وجد نفسه جزءاً من حركة احتجاجية تعبر عن آلام الشعب العراقي. كانت المظاهرات والمنشورات السياسية والمنابر الطلابية أولى محطات وعيه، التي قادته لاحقاً إلى تبني الفكر الماركسي كإطار تحليلي لفهم الواقع والتفاعل معه.

الجامعة وبدايات العمل السياسي

في عام 1963-1964، التحقنا أنا والدكتور شعبان بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة بغداد، وهي إحدى الكليات المرموقة التي كانت تقبل فقط الطلبة المتفوقين أكاديمياً. لم يكن الاندماج في البيئة الجامعية الجديدة سهلاً، حيث أتيت من مدينة أربيل التاريخية العريقة ذات الطابع المحافظ والديني مع وجود نشاطات وحركات تميل إلى الصبغة اليسارية والوطنية والقومية، وواجهنا مجتمعاً منفتحاً حراً وغير متعصّب، واختلطنا مع طلبة أكثرهم من بغداد العاصمة الجميلة الجذابة الراقية وكذلك من مدن عراقية أخرى، سواءً في الوسط أو الجنوب أو الشمال وكان من ضمنهم طلاب من مدينة النجف الأشرف مثل عبد الحسين شعبان، والمرحوم أزهر صالح الجعفري، والمرحوم عبد الجليل الشيخ راضي، وزاهرة عجينة، وطلاب من اليمن والجزائر وفلسطين والأردن. ومن هذا الزمن بدأ شعبان يهتم بالقضية الفلسطينية فأقام علاقات قوية مع الطلبة الفلسطينيين في الجامعة وخارجها.

كان لهذه التجربة دور كبير في تشكيل وعيه السياسي، حيث بدأ يتفاعل بشكل أكبر مع القضية الفلسطينية، وأقام علاقات وثيقة مع الطلبة الفلسطينيين داخل الجامعة وخارجها. وفي ربيع عام 1967، شارك شعبان بفاعلية في أول انتخابات طلابية ديمقراطية في تاريخ العراق، حيث كان ممثلًا للتيار الوطني التقدمي ضمن اتحاد الطلبة العام، الذي حقق فوزًا كاسحاً بنسبة 80% من الأصوات و76 مقعداً في المجالس الطلابية.

القضية الفلسطينية: انحياز مبدئي

منذ سنواته الجامعية، كان عبد الحسين شعبان يرى أن القضية الفلسطينية ليست مجرد قضية سياسية، بل هي نموذج أممي للاضطهاد. اعتبر أن اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم هو أكبر عملية سطو على التاريخ، مما جعله ينحاز بشكل كامل لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، وخاصة حق تقرير المصير، وهو المبدأ الذي ظل ركيزة أساسية في فكره ومواقفه السياسية.

القضية الكوردية: رؤية نقدية للحلول السياسية

شهدت القضية الكوردية تطورات كبيرة في الفكر السياسي العراقي، لكن لا تزال هناك خلافات حول مضمون هذه الحقوق وحدودها، خصوصاً بعد الاحتلال الأمريكي – البريطاني للعراق. يرى المفكر عبد الحسين شعبان أن الحل الصحيح للقضية الكوردية يتطلب نقاشات علنية وصريحة، توفر ضمانات قانونية، وتؤسس لعلاقة عربية – كوردية قائمة على عقد سياسي جديد.

ويؤكد أن الضمانات الدستورية التي وردت في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية 2004، والدستور العراقي 2005، لا تزال تثير الكثير من الإشكاليات، مما يتطلب إعادة النظر فيها من خلال حوار وطني شامل، بعيداً عن التدخلات الخارجية التي تضر بالسيادة العراقية.

ويحذر شعبان من ثلاث تحديات أساسية تواجه هذه العلاقة:

  1. التحدي الدولي، حيث تسعى بعض القوى إلى إضعاف الروابط العربية - الكوردية.
  2. التحدي الإقليمي، في ظل تنافس القوى المجاورة على التأثير في العراق.
  3. التحدي الداخلي، حيث تظل المواطنة الركيزة الأساسية لأي حل سياسي مستدام.

ويؤكد شعبان أن الحل الأمثل يكمن في تأسيس عقد اجتماعي جديد يضمن حقوق الجميع في إطار دولة ديمقراطية تحترم التعددية القومية والثقافية ويرتكز على المصلحة العامة، وليس المصالح الشخصية أو الحزبية الضيقة.

الديمقراطية والمواطنة: شروط بناء الدولة الحديثة

يرى عبد الحسين شعبان أن المواطنة الكاملة هي الشرط الأول لبناء الدولة القانونية، حيث لا يمكن تحقيق الديمقراطية دون ضمان حقوق المواطنين السياسية، بما في ذلك حق التظاهر، والتجمع، وتأسيس الأحزاب، والتعبير الحر.

يؤمن المفكر عبد الحسين شعبان أن الانتخابات ليست مجرد عملية اقتراع، بل هي جزء من بنية سياسية متكاملة ترتبط بحقوق الإنسان والحريات العامة. ولهذا، يرى أنه لا يمكن الحديث عن انتخابات ديمقراطية حقيقية دون وجود بيئة قانونية تضمن الحقوق الأساسية، مثل حرية التظاهر، وحرية التعبير، وحق تأسيس الأحزاب والجمعيات والنقابات

حوارات فكرية ومؤتمرات مهمة

في إطار جهوده لتعزيز الديمقراطية ترجم شعبان أفكاره إلى مبادرات عملية، حيث نظم العديد من المؤتمرات الحوارية، أبرزها:

  • أول حوار عربي - كوردي عام 1992، الذي شكّل خطوة مهمة في تقريب وجهات النظر بين الطرفين.
  • حوارات تونس وعمان، التي تناولت قضايا التعايش بين القوميات في العراق والمنطقة.

وفي مقابلة تلفزيونية عام 2023، أشار شعبان إلى أن تجربة إقليم كوردستان شهدت تطوراً سياسياً ودستورياً ملحوظاً رغم التحديات. وأكد أن الحل الوحيد يكمن في تنازلات متبادلة بين بغداد وأربيل، للوصول إلى اتفاق تاريخي يحقق حقوق جميع الأطراف ضمن إطار الدولة الاتحادية.

كما شدد على أن عراقاً قوياً لا يمكن أن يقوم دون إقليم كوردي قوي، والعكس صحيح، مؤكداً أن أي خلل في التوازن بين الطرفين سيؤثر على استقرار العراق بأسره.

مسيرة فكرية لا تتوقف

على مدى أكثر من نصف قرن، ظل عبد الحسين شعبان مفكراً نقدياً ومجدداً، متفاعلًا مع قضايا وطنه وأمته والعالم، باحثاً عن حلول عقلانية وعادلة لمختلف التحديات السياسية والاجتماعية.

وفي الختام، أكد البروفيسور شيرزاد النجار أن المفكر عبد الحسين شعبان ليس مجرد أكاديمي أو محلل سياسي، بل هو صاحب رؤية فكرية متكاملة، سعى دائماً إلى بناء فكر نقدي وتحليلي يخدم قضايا الإنسان والحرية. واليوم، في هذا الحفل التكريمي، نحتفي برجل لم يكن صوته إلا صوت الحق، ولم يكن قلمه إلا أداة تنويرية في خدمة الفكر الإنساني ساعياً إلى بناء جسور التفاهم بين مختلف المكونات.


البروفيسور د. شيرزاد النجار: مفكر وباحث كوردي، أستاذ في العلوم السياسية ورئيس جامعة كوردستان سابقاً


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved