في ثمانينات القرن الماضي، حين كانت جبال كوردستان تئن تحت وطأة نظامٍ لا يعرف سوى لغة الرصاص، عشتُ في محافظة دهوك شاهداً على زمنٍ كان الخوف فيه رفيقاً يومياً، والموت مجرد طقس عابر. النظام العراقي آنذاك، بقيادة صدام حسين، لم يكن دكتاتورياً عادياً، بل آلة قمع مُحكمة الصُنع، تكبت أي همسة حرية قبل أن تُولد. كانت الحرب مع إيران قد توقفت 8\8\1988، لكن «حملات الأنفال 1988» بدأت تطحن كرامة الإنسان الكوردي، وتحوِّل قرى بأكملها إلى صفحات مأساوية في سجل التاريخ.
كنت سجيناً وأنا في السابعة عشر من العمر والسبب هو محبتي من قبل الطلبة في إعدادية كاوه والشك في انتمائي لنشاط سري، أطلق سراحي لنصف ساعة فقط بعد شمولي بعفو عام أصدره صدام حسين، لكن أعيد اعتقالي لأكون هذه المرة محسوباً على هؤلاء الذين ألقي القبض عليهم أو سلموا أنفسهم من حملات الأنفال. فأصبحت ضحيةً لـ«قلعة الموت» التي احتجزتني اثني عشرة يوماً مرت كأنها أعوام. أيامٌ كُتب فيها أن أرى بأم عيني كيف يُسحق الجسد تحت أقدام الجلادين، وكيف تُزهق الأرواح لأتفه الأسباب. كنت أتمنى لو أن السجن الأول امتد لسنوات، فالأيام القليلة هذه جعلتني أدرك أن الموت أهون من أن تُسلب إنسانيتك. لم تكن تلك القلعة في دهوك سوى نموذج مصغر عن ساحات التعذيب في الجنوب، حيث الدماء تتساوى في لونها، والآلام لا تعرف حدوداً جغرافية.
السم الذي زرعه البعث في جسد المجتمع
لم يكتفِ النظام في حكمه بتحويل السجون إلى مقابر للأحياء، بل حوَّل الشارع إلى ساحة شك. كان «الرفيق» البعثي يدفع الأب لتسليم ابنه الهارب، ليعدموه رمياً بالرصاص ويُكتَب على جثمانه «خائن»، ثم يُجبَر الأب على دفع ثمن الرصاصات التي أردته! وألا يقيم مجلس عزاء وهو أبسط شيء يقدمه الأب والأهل لفقيدهم. نعم المجتمع تحوَّل إلى غابة، يتجسس الأخ على أخيه، والجار على جاره، بينما تختنق الأحلام تحت سقف الخوف.
لكن حتى في ظل هذا الظلام، بقي للعراقيين قلب ينبض بالغَيْرة والتضامن والحب. كنت أرى ذلك في عيون الشرطي الذي كان يمنعني من الوصول إلى والدتي المسجونة حاملاً لها بعض الطعام أو الوقود للتدفئة إذ كان ذلك الشرطي من أهل الجنوب ومعاقَب بالنفي إلى الشمال وكان لا حول ولا قوة له سوى الألم وتطبيق ما يُملى عليه. كان حب المواطنين لبعضهم البعض كبيراً والوطنية والانتماء أيضاً أقوى من كل شعارات البعث ولكن مقروناً بالشك والخوف.
أما صدام حسين، فقد عاش اللحظات التي فيها دخل عالم النصر كما كان يتصوره هو. نعم بدأ يتصرف بتصرفات غريبة لم يتعود العراقيين عليها. هذا كان بعد الإعلان عن وقف الحرب مع إيران ذات الثمانية أعوام. فكان يعيش في عالمه الخاص. بدل أن يحارب الفقر، حارب الموضة! غيَّر زيه العسكري إلى «رباط حبل» و«قميص مقلم»، وتخيل نفسه ملكاً شرقياً بزي غربي يركب الموجة. إلا أن جبروته ودكتاتوريته كانت أقوى لتعيده إلى الطريق الذي كان يتلذذ به وهو القتل والعنف. فوقع في فخ غزوه للكويت عام 1990 التي كانت الجرس الذي أيقظ العراقيين من سباتهم حيث هم أيضاً كانوا قد فقدوا الأمل بأن يزاح النظام أو الجلاوزة.
لم يكن غزو الكويت مجرد خطأ استراتيجي للنظام، بل كان الصاعق الذي أشعل جمرة الأمل تحت رماد اليأس. فبعد سنواتٍ من حربٍ طاحنة مع إيران، وحملات الأنفال التي حوَّلت كوردستان إلى مقبرة جماعية، استعاد العراقيون، شمالاً وجنوباً، إيمانهم بأن النهاية قادمة. حتى التنظيمات السرية، التي كانت تتنفس بخفة خلف جدران الخوف، بدأت تهمس: «الآن أو غداً». لكن أحداً لم يكن يتخيل أن النظام سينهار بضربة واحدة... أو أن الأحلام ستُباد مرة أخرى.
لحظة الانفجار.. حين انقلب الخوف إلى ثورة
بدأت النشاطات السياسية المعادية للنظام تنشط مرة أخرى. والدول العالمية تراقب الحدث في العراق. الجيش تهالك والأرزاق نفدت وصبر العراقيين الوطنيين نفد أيضاً. كان الخوف واضحاً وجلياً على وجوه الرفاق الحزبيين. وكان الجميع ينتظر ساعة الصفر التي ستكون نقطة تحول بمختلف الأحاسيس. فالوطنيون الذين يؤمنون بالمحبة والسلام سيكون لهم فرحة لا توصف وهؤلاء الذين يؤمنون بنظام البعث وظلم البعث كانوا على دراية بأن جهنم قد فتحت الأبواب وفي انتظارهم.
في صباح يوم الانتفاضة، كان الجو مشحوناً كالبارود. ما إن حلَّ الصباح حتى تحوَّلت شوارع دهوك إلى ساحة معركة. أذكر جيداً صوت الانفجار الأول لـ«آر بي جي» دوى قرب منزلنا. تسللت إلى شباك الحمام لأرى المدرعات تتراجع، والجنود يفرون كالفئران. بحلول النهار، كان «الپيشمركة» يسيطرون على المدينة، بينما وقف جنود النظام مذعورين، أيديهم على رؤوسهم، يتوسلون للعفو. قدمنا لهم السلام مع بعض من التمر، رغم أننا كنا نحتاج إليه، إلا أننا تعلمنا أن الظلم لا يُواجه بالكراهية.
اجتاحت الانتفاضة العراق كله بحركةٍ أشبه بالفيضان. من أزقة البصرة إلى جبال دهوك، سقطت رموز النظام واحتَرقَت صور الطاغية. لكن أمريكا، التي رفعت شعارات الحرية، قررت فجأةً أن «صدام مقصوص الجناح» أفضل من فراغ قد تملؤه إيران. فتركت الحرس الجمهوري العراقي يعود كالوحش الجريح، ليمزق المدن التي تحررت قبل أيام. في الجنوب، اُختُنقت الثورة بالدم. وفي كوردستان، تحولت الفرحة إلى رحلة هروب لا تنتهي... إلى الجبل.
«لا صديق للكورد سوى الجبل»
حملنا الخوف على ظهورنا، وصرنا ثلاثة ملايين إنسان يلتحفون صخور الجبال. لم نكن نهرب من الموت فحسب، بل من فكرة أن العالم بأسره قد خاننا. أطفال يتساقطون من البرد، ونساء يلدن بين الصخور، وشيوخ يتركون أنفاسهم الأخيرة على حواف الوديان. أذكر تلك الطفلة ذات الخمس سنوات التي حملتها على كتفي، ظننتُها ميتة حين تحول لونها إلى أزرق شاحب... لكنها فتحت عينيها قبل لحظة دفنها، وكأن الجبل نفسه يرفض أن يستسلم.
لم يكن العدو الوحيد هو صدام. حتى «حزب العمال الكوردستاني» استقبلنا بابتسامةٍ ملوثة، نزعوا أسلحتنا الواهية، وتركونا نسير في حقول ألغام بلا دليل. كانت الأجساد تتطاير حولنا كأوراق الخريف، لكننا تعودنا على صوت الانفجارات كجزء من روتين الهروب. وعندما وصلنا إلى حدود تركيا، وقفت «الجندرمة» كتمثالٍ بلا رحمة. قال قائدهم: «مُخوَّل بإطلاق النار عليكم... إلا إذا تقدمت النساء والأطفال أولاً». فمشينا كالقطيع، نرتجف من صوت الرصاص الذي يُطلق في الهواء... ليُعلنوا للتاريخ أنهم «أنقذونا»!
مخيم اللاجئين حيث تُقاس الكرامة بالخبز
في تركيا، لم نجد سوى الخيام البالية التي احتضنت آلاف العائلات. هناك، حيث يُقاس الألم بعدد الجوعى، وصلتنا أولى مساعدات الأمم المتحدة. جاء «جيمس بيكر» كسائحٍ في جولةٍ سياحية، يتأمل المأساة من نافذة سيارته المكيفة. كانت صورته مع رغيف الخبز الذي يوزعه تُذاع في الأخبار، بينما كنا نحن نحفر قبوراً جديدة كل يوم... ليعرف العالم أن «المنظمات الدولية» تلبس أقنعة.
هذه ليست رواية عن الهزيمة، ولا مجرد ذكريات شخصية، بل شهادة حية على أن الجبال لم تكن فقط ملاذاً، بل كانت مدرسة قاسية علمتنا أن الحرية تُولد مرتين: مرة حين نقاوم الطغيان، ومرة أخرى حين نكتشف أن العالم يساوم على قضايانا بثمن بخس. لكننا، نحن الكورد، تعلمنا كيف نستخلص الأمل حتى من بين الألغام، وكيف تكون القوة الحقيقية في إرادة شعب يؤمن بأن المعاناة هي الطريق إلى الحرية. في الشمال والجنوب، انتظر العراقيون طويلاً بزوغ فجر جديد، فجاءت الانتفاضة لتعلن: «لكل ظالم نهاية».
حمدي سنجاري: دكتوراه قانون دولي ونائب مدير شركة «سومو» الوطنية