خلال تجوالي بين العواصم، ألتقي الفنان الكردي بهاء الدين أحمد، وهو مزمع على سفر أو عائد منه. ولد عام 1954 في السليمانية وفيها قضى شبابه ونضوجه.
ترك بهاء الدين مدينته خلفه في بداية السبعينات ليدرس في أكاديمية الفنون الجميلة في فلورنسا وسكن في شارع بين أهم متحفين (داليوفتسي وبالا تسوبيتي) اللذين يضمّان أعمال عمالقة عصر النهضة. لم تترك أعمال ليوناردو دافنشي ولا مايكل أنجيلو ورافائيلو آثارها عليه. منهم أخذ الفكرة التي جسدها عصر النهضة: «أنا فنان حديث، ولكن لا أنتمي لما بعد الحداثة». يصل إلى الحداثة عن طريق الحرفة الكلاسيكية والمهارات التي حصل عليها عن طريق الدربة والدأب.
تستهويه غرابة السورياليين ويصل إليها من خلال التعارضات بين الواضح والملموس وبين الغموض المنتج للمعاني. الواقعي في عمله ليس واقعاً كما يبدو للوهلة الأولى. ما يراه مطروح في فضاء معاكس. كل مفردة منتزعة من مكانها، كما في حياته الفعلية، طافية في الفضاء، لا تصعد عالياً ولا تستقر على الأرض، «إنها قلقي».
يعيش بهاء الدين في قلق دائم. أحداث عصره، بما فيها من حروب وهجرات جماعية وتحولات سياسية تعنيه كانها تحدث في بيته. مفردات أعماله لا تستقر، وإن استقرت، ففي مكان غير مكانها. تماماً كما هي حياته الفعلية.
حين التقينا آخر مرة، كان موعدنا على جسر قديم فوق نهر تائه في مدينة مزدحمة بالسياح، قريباً من المحطة الدولية في أمستردام. لم أستغرب المكان: هذا هو بهاء الدين، وهذه حياته وفنه! أنا عائد إلى لندن وهو ذاهب إلى فلورنسا، فيها مرسمه وفي أمستردام بيته. في هذا اللقاء أهداني ألبوماً لمعرض متنقل في أوروبا يضم أعمال ثلاثة رسامين عراقيين (قاسم الساعدي، رسمي الخفاجي، وأعماله هو). الثلاثة جاءوا من مدن مختلفة قاسم من بغداد، ورسمي من الديوانية، وبهاء الدين من السليمانية. توزعوا بين مناف مختلفة في إيطاليا وهولندا. كل واحد منهم قضى أكثر من أربعين عاماً في الرسم والنحت حتى جمعهم ميل متقارب إلى الحداثة والتجريد. المعرض تحت عنوان «ساحلَين» بينهما جسر يربط تجارب الفنانين الرواد في العراق وبين تيارات الحداثة الأوروبية.
على تنقله وتغيّر موضوعاته يسحرني بهاء الدين دائماً. في لوحاته حكاية خفية تلتقي مع اهتمامي بالمجازات، وتستغرقني بالبحث عن المعاني المختفية في مفرداتها.. الصخرة، الكرسي، الريشة، القارب.. كل واحدة من هذه المفردات رسمت بحرفية كلاسيكية مستخدماً في الغالب مادة الأكريليك، وبالحرفية نفسها حاول أن يجسّد المادة الخام ليصل إلى ما بعد الواقعية. لكن المفردات محاطة بفضاء غير واقعي.
في واحد من معارضه بلندن، أدخلني بهاء الدين وسط الانفجار وأنا أضحك. نسيت هول الانفجار الذي كنت قريباً منه مرات، نسيت انقطاع الزمن، ما بين غفلة الماشي قبل الانفجار وما بعده، نسيت تناثر الأجساد والأشياء... دخلت وسط شظايا علّقها بخيوط غير مرئية. دخلت لآخد صورةً غير معقولة: أنا وسط الانفجار، ومع ذلك أبتسم! هذه هي لعبته: المفارقة!
قضى بهاء الدين ثلثي حياته في المنافي. حين أسأله: أين الكردي فيه؟ يشير بإصبعه إلى مكان قلبه: هنا! أو يشير إلى الصخور المنتشرة في معظم أعماله: وهنا!
صخور الجبال المنتزعة من مكانها في الجبل تستهويه وتثقله، طافية في الفضاء كما يجرّدها السورياليون من وزنها فتصبح بخفّةً ريشة، أو مستقرة في غير مكانها. أعجب من قدرته على تجسيد الشيء بحرفية الرسام الفلورنسي، ومن لا واقعية مكانه ومعناه.
في داخل بهاء الدين جرح لا يندمل. كان في الثامنة من عمره حين استشهد شقيقه المناضل أحمد الحلاق. يتوقف حين يستذكر الحدث ويسحب نفساً عميقاً حين يدخل تفاصيل التعذيب. سمع في البيت قصصاً قاسية عن تعذيب شقيقه في قصر النهاية. الكرسي، الكرسي، الكرسي يتكرر في خياله وفي رسومه معلقاً بالمقلوب، مطروحاً جانبياً على الأرض، متوهجاً بالنار، مثقوباً ببقعة من دم، عليه يتمدد تمساح. الكرسي في خياله رمز للسلطة الباغية وللثبات حتى الموت. يتشكل ويعاد تشكيله، موجود لوحده يوحي بحضور الغائب. من الكرسي والرأس النائم عليه صنع بهاء الدين تمثالاً لأخيه الشهيد ووضعه في أهم حديقة في السليمانية. أراد أن يجمع المتناقضين، الجمال والألم.
زهير الجزائري : كاتب وروائي عراقي