قد لا يكون العنوان مفهوماً لأول مرة بمعنى أنه لا يكشف بوضوح ما الذي يعنيه، أو ما الذي يبحث تحته؟ وقد لا يكون العنوان دقيقاً أيضاً لأن الصراع كان بين المسلمين والمسيحيين لا بين الإسلام والغرب، وليس من طبيعة الإسلام الصراع فهو دين وبيان؛ ولكن التعبير شائع. فإذا كان العنوان اختزالاً لجملة أفكار وقضايا متسلسلة بعضها لا يتبين من دون الإشارة إليها بصراحة؛ فإن فهم القصد منه يحتاج إلى تأمل، وعنوان هذا المقال من هذا النوع، ومن هنا نقدم إيجازاً للفكرة التي يريد العنوان التعبير عنها من دون الخوض في التفاصيل التاريخية.
صراع الإسلام والغرب صراع تاريخي بدأ منذ القرن السابع الميلادي إبان الفتح الإسلامي للشام وظل محتدماً والحرب سجالاً لم يهدأ طوال كل هذه القرون، كانت ذروته في الحروب الصليبية التي حسمها صلاح الدين الأيوبي لصالح الإسلام في حينه، إلا أن الصراع لم ينته، وتخللت هذا الصراع انتصارات تاريخية للمسلمين كما هو الحال في فتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية حوالي منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، وانتصارات أخرى للغرب المسيحي كما هو الحال في سقوط الأندلس في الفترة نفسها. وكان سقوط الدولة العثمانية، التي كانت لاتزال تمثل الإسلام بوجه الغرب، ولو شكلاً لا حقيقة، في بدايات القرن العشرين ضمن استحقاقات الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، إيذاناً بخروج أو إخراج الطرف الإسلامي من الصراع التاريخي بمعناه العنيف، ومسماراً أخيراً يدق في نعش هذا الصراع المخيف الطويل كما أرادوها. ولكن ما مر هذا السقوط كظاهرة طبيعية في تداول الأيام، كما جرى لسقوط إمبراطورية الرومان ودولة قياصرة الروس، والنمسا، والاتحاد السوفييتي قريباً. بل ترك سقوط العثمانيين، على غير العادة من سنة الشعوب والقدر في التداول «وتلك الأيام نداولها بين الناس»، جرحاً كبيراً في أعماق مشاعر المسلمين لاتزال آثاره السلبية تتفاعل عمقاً بل أراد لها بعضهم أن تظل فاعلة في النفوس للأبد، وأن تعمق الهوة التي كانت عميقة في الأساس بمثل ما فعلوا في نموذج إلغاء مصطلح التفاهم القرآني مع أهل الكتاب الذي يعني أهل الحضارة والدين واستبدال مصطلح الإيمان والكفر به تمهيداً لتقسيم البشرية التي كانت أمة واحدة إلى فسطاطين بينهما برزخ لا يبغيان.
وإذا اعتبر بعضهم سقوط الدولة العثمانية سقوطاً للإسلام أو المسجد، وهذا هراء بنظري، لأن الإسلام خالد، والمسجد قائم، وسيظل قائماً بقيام القرآن الكريم الذي تولى الله حفظه، فإن دولة الكنيسة قد سقطت قبل دولة المسجد بقرون من دون أن يبكي عليها أحد، أو يرثيها شاعر، أو يتحسر على مجدها شعب مسيحي يرتاد الكنائس، ويؤمن بالمسيح عليه السلام.
وربما يعود الفرق بين الفريقين في الاستجابة لظاهرة سقوط الدين السياسي هو أن دولة الكنيسة سقطت بفعل أتباعها الذين استخدموا أعظم منحة وهبهم الله أي عقولهم فميزوا بين إرادة الله في ملكوته، وإرادة الإنسان في ناسوته، فأطلقوا حرية الإنسان في مصالح دنياه، وأبقوا الدين للكنيسة فسلموا بما يخصها من الهداية الدينية في إطار الروح، وآثروا العلم والحرية فيما يخص دنياهم، فبنوا بذلك حضارة ما كانت لتحصل لو ظلوا رافضين للعلم واستحقاقات التجربة واكتشافاتها، متمسكين بدولة الكنيسة؛ وكانت حضارة ما اكتفت بتنوير العالم الغربي بل بلغت أشعته أصقاع المعمورة، من دون تفريق بين أمة وأمة، ولا تزال تأتي بالعجائب في الفضاء والاتصالات.
أما العالم الإسلامي فقد سقطت دولتهم، لأنها لم تكن دولة حضارية، على أيدي أعدائهم التاريخيين الذين طال أمد الصراع بين الطرفين قروناً، أو هكذا تخيلوا وظنوا؛ لأن الحقيقة هي أن الحرب العالمية الأولى التي نشبت في البداية بين إمبراطورية النمسا وروسيا عام 1914م في قصة معروفة لم تكن تستهدف الدولة العثمانية، وما كانت لهذه الدولة المريضة ناقة فيها ولا جمل سوى العداء التاريخي لروسيا، فقادها سوء تقديرها للعواقب إلى الانضمام إليها بجانب ألمانيا، فكانت الهزيمة التي جعلت المنتصرين يقطعونها إرباً إرباً. فما كانت تلك الحرب حرباً دينية، وما خاضوها لإسقاط دولة المسلمين، بل كانت أساساً حرباً مسيحية - مسيحية.
وبدلاً من أن يبحثوا في الآفاق عن الأسباب الموضوعية والحضارية والإنسانية التي أدت إلى وفاة تلك الدولة التي عرفت في العالم بـ«الرجل المريض»، سلموا بفكرة بسيطة كانت امتداداً لصراع متجذر قديم من دون مراعاة المتغيرات الهائلة التي قلبت رأساً على عقب موازين القوى المختلفة؛ وهي أن هذا السقوط مؤامرة كنسية غربية هي امتداد للحروب الصليبية وأدت إلى طرد المسلمين من المعادلة السياسية بين القوى الكبرى الفاعلة في رسم سياسة العالم، وسادت ثقافة عامة تحذر المسلمين من التفاعل مع أي وافد غربي خشية من وضع «السم في الدسم» كما يقولون، وتتعامل بريبة وحذر مع منتجات العلم ومكتشفاته، بينما لم يكن إخراج الطرف الإسلامي العثماني من المعادلات السياسية من أهداف الحرب العالمية الأولى، بل كان من نتائجها، والفرق شاسع بين الهدف والنتيجة.
والحقيقة، كما قلنا، أن السقوط كان حضارياً فحسب، فقد ذكر لنا المؤرخون أن بعض رجال الدين قد حرموا الطباعة في الدولة العثمانية، ولم يسمحوا بطباعة المصحف إلا عام 1825، رغم أن أول كتاب طبع بالعربية في أوروبا كان عام 1591، كما حرم غيرهم قائمة طويلة من المخترعات الحديثة، والقول بأن الأرض تدور حول الشمس، مع أن القرآن الكريم حث المسلمين على التفكير في الخلق والنظر من أجل الاعتبار وكشف الحقائق.
والحق أن التبشير الكنسي لم يكن بريئاً من هذه العملية بشكل أو بآخر، وكذلك الحركة الصهيونية التي بذلت جهداً كبيراً مع العثمانيين لمنحهم موضع قدم سياسي في فلسطين، فأبوا، ولكن كان على المسلمين أن يدركوا أن الإسلام لم يسقط، ولن يسقط كدين وثقافة وخلق إنساني رفيع، لكن الذي سقط هو نظام سياسي تخلف عن ركب الحضارة فكان هذا حضارياً لا دينياً؛ لأسباب عديدة أهمها:
1) منذ تغلب التنوير والعقلانية والمدنية في الغرب، في القرن الثامن عشر وما بعده، لم يعد الدين هو الحاكم ، فقد أقيم حاجز بين الدولة المعنية بشؤون الدنيا وبين الكنيسة التي تفرغت لقضايا الدين والعبادة، أي لم تعد هناك ما تؤجج مشاعر الصراع الديني كقوة ضاغطة على الرأي العام، كما كان يحدث إبان الحروب الصليبية؛ بل مرت فترة، إبان ثورة فرنسا، لم تمتد أكثر من خمسين عاماً، لم يعد فيها للدين شأن، وهي الفترة التي سببت إلصاق تهمة الإلحاد بالعلمانية؛ رغم أنها مفهوم دنيوي للحياة يقصي الجانب الغيبي في أمور الدولة، ولم تكن لها علاقة بتفسير الدين. وهنا فقد الغرب عاملاً قوياً في صراعه مع المسلمين، وهو الدين الذي كان هو القائد المهيمن في تحريك الجيوش الغربية في تأجيج الصراع ضد المسلمين، ولكن حلت محله المصالح الاستعمارية، فاستعاد التوازن والهيمنة بما اكتشف من صناعات وعلوم وفنون قلبت الموازين رأساً على عقب، فتركوا، أي الغربيون، منهج اللاهوت الفلسفي والمنطق، واتخذوا العلم القائم على منهج الملاحظة الحسية للظواهر الجزئية، ووضعوا قوانين لتفسيرها بالكشف عن العلاقات التي تربط بينها وبين غيرها من الظواهر، وصياغتها في رموز رياضية، وكان هذا المنهج يمنع الخرافات في تفسير ظواهر الطبيعة. وما كان اشتغالهم بالعلم الطبيعي يعني كفرهم بعالم الغيب، فمعظم العلماء الغربيين كانوا من المؤمنين بالله سبحانه من أمثال غاليلو 1641 ونيوتن 1727.
2) الحضارة استعمار بشري وعمل عقلي تجريبي «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» (سورة هود 61)، أي لا تنزل بوحي على أمة، فقد مارسها المسلمون من قبل، ففي الوقت الذي كان الغرب يغط في ظلام دامس كان الخليفة في بغداد يأمر بترجمة علوم اليونان وثقافة الهنود. ثم مرت قرون وظل الغرب في نوم عميق في العصور الوسطى حتى تفتحت عيونهم بمشاعل قرطبة عاصمة الأندلس تنشر جامعاتها أنوار الفلسفة والعلوم، فارتادها طلاب من الكنيسة الغربية بحثاً عن المعرفة، وكانت فلسفة ابن رشد الأندلسي في هذه الجامعات فاتحة يقظة علمية للغربيين، بدأت من القرن الثاني عشر، لا يزالون يعترفون بها؛ بمثل ما أصبح سقوط عقلية ابن رشد أي المذهب العقلي في الفقه الإسلامي، والاستسلام لفكرة غلق الابداع والاجتهاد بأنه «ليس في الإمكان أبدع مما كان» والاكتفاء باجترار ما قال الفقهاء المجتهدون من قبل، وما كتبوا لعصورهم «وما ترك الأوائل للأواخر شيئاً» أصبح هذا الوضع الجامد فاتحة نوم عميق للمسلمين، ما أفاقوا فيه إلا بعد أن وقع الفاس في الرأس، ووجدوا أنفسهم في المقاعد الدنيا لدول العالم.
ويقال إن عصر الإسلام الذهبي يمتد من منتصف القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر لميلاد المسيح أي في الفترة التي حمل فيها المسلمون عرباً وغيرهم وحدهم مشعل النور والحضارة في العالم كله، ولم يكن العلم الطبيعي قد استقل عن فروع المعرفة. أما عصر الحديث الغربي فيبدأ من القرن السابع عشر الذي شهد في مطلعه أصول المنهج التجريبي.
د. محمد شريف: كاتب ومفكر كوردي مختص في فلسفة القانون