رحلة لاجئ كوردي إلى عالم الصحافة الدولية
رحلة لاجئ كوردي إلى عالم الصحافة الدولية

البدايات غير المتوقعة (1991)

في عام 1991، كنت قد أمضيت اثنتي عشرة سنة في سلك التعليم الثانوي كمدرس كيمياء في أربيل. وكان العراق قد أنهكته سنوات الحرب العراقية الإيرانية الطويلة وأثقله صدام حسين بحرب أخرى باحتلاله الكويت. ثم اندلعت الانتفاضة الشعبية في كوردستان. في هذه الأجواء، وأنا أعيش في خضم هذه الأحداث الدراماتيكية، لم يخطر ببالي يوماً أن أصبح صحفياً، ناهيك عن نشر تقاريري في صحيفة عالمية مرموقة كـ«الواشنطن بوست» (The Washington Post) الذائعة الصيت. لكن القدر كان قد خبأ لي مفاجأة سارة غيرت مسار حياتي، إذ بدأت في تلك الفترة بالعمل مع منظمات معنية بحقوق الإنسان وكنت في نفس الوقت قد عدت إلى مقاعد الدراسة الجامعية لنيل شهادة الحقوق.

جوناثان راندل... الصحفي الذي ألهمني

في تلك الفترة العصيبة من تاريخ شعبنا الكوردي، كنا ننظر إلى الصحفيين الأجانب كحاملي مشعل أمل لإيصال صوتنا إلى العالم. وكان أول لقاء لي مع الصحفي الأمريكي الشهير جوناثان راندل (Jonathan Randal) بعد الانتفاضة في أربيل. فهو صحفي جريء تجاوز حدود المهنة ليصبح كاتباً شاهداً على معاناة الكورد. لم يكتفِ بتغطية الأحداث من بعيد، بل خاطر بحياته وتسلق جبال كوردستان في الستينات، موثقاً لتاريخ ونضال شعب يتوق إلى الحرية.

زار جوناثان راندل منزلنا في أربيل حاملاً دفتره الصغير الذي أصبح شاهداً على تفاصيل حياتنا اليومية. كان يجري حوارات عميقة مع أخي عدنان المفتي، الذي عُرف بمصداقيته وحياده، وكذلك مع السياسي المعروف الدكتور محمود عثمان، ومعظم القادة الكورد محولاً شهاداتهم إلى وثائق تاريخية نُشرت في كبرى الصحف العالمية. وتوج جهوده بإصدار كتابه الشهير «أمة في شقاق... دروب كردستان كما سلكتها»، الذي أصبح مرجعاً مهماً في فهم القضية الكوردية، وتُرجم إلى اللغتين العربية والكوردية ليصل إلى جمهور واسع.

صورة تجمع جوناثان راندل وإحسان المفتي في أربيل

 

من أربيل إلى باريس... لقاءات القدر

التقت مساراتنا مرة أخرى في باريس خلال رحلة علاج أخي عدنان المفتى بعد إصابته في الهجوم الإرهابي في 1 شباط عام 2004. كان لقاءً مؤثراً هذه المرة حيث استعدنا فيه ذكريات السنوات الماضية وتأملاتنا حول التغييرات التي شهدتها المنطقة. راندل، الذي بدأ مسيرته مراسلاً حربياً في الجزائر، وغطى حروباً في لبنان وإريتريا، وكتب عن شخصيات مثيرة للجدل كأسامة بن لادن، ظل محتفظاً بشغفه وحيويته بعد 45 عاماً من العمل الصحفي المتواصل.

قصة الكوردي... من هولندا إلى العالمية

لكن المفاجأة الكبرى كانت عندما قادني القدر إلى هولندا عام 1996 والعمل بعد عدة سنوات من وصولي، (1999 - 2004)، مراسلاً لوكالة UPI «يونايتد پريس إنترناشيونال» الأمريكية، لأكون مصدراً ونافذة لنقل أخبار كوردستان إلى عالم الصحافة والأخبار الدولية. وجدت نفسي أكتب تقارير تُنشر الى جانب موقع الوكالة في نفس الصحيفة التي طالما حلمت بها «الواشنطن بوست» واستمر العمل هناك إلى أن حدثت مأساة العملية الإرهابية في 1 شباط 2004، حيث تغير مسار عملي مرة أخرى عائداً إلى الوطن لمرافقة شقيقي الذي أصيب في الحادث في رحلة العلاج.

كتاب جوناثان راندل عن الهجرة المليونية للكورد

 

جوناثان راندل... شاهد على خذلان الكورد

عندما زار جوناثان راندل كوردستان عام 2022 التقيته على مأدبة غداء بحضور شقيقي عدنان المفتي وهيوا محمود عثمان حيث استعاد ذكرياته وتجاربه المهمة، خاصة أحداث 1991. تحدث راندل كيف شهد السماح لقوات صدام حسين بسحق الانتفاضة الكوردية، رغم أن الرئيس جورج بوش الأب كان قد دعا العراقيين للإطاحة بصدام. وصف موقف الإدارة الأمريكية آنذاك بـ«السلوك الذي لا يمكن تبريره»، موضحاً أن دافعه لكتابة الكتاب كان «توثيق ما يعتبره خيانة أمريكية».

وفي هذا اللقاء، كرر راندل نفس ما سمعته منه في لقائنا الأول بمقر الحزب الاشتراكي الكوردستاني في أربيل، عام 1991 وهو يتحدث بمرارة عن «خذلان الأكراد»، مستعرضاً سلسلة الخيبات المتتالية، بدءاً من اتفاقية الجزائر 1975 مع هنري كيسنجر، وصولاً إلى موقف الولايات المتحدة من استفتاء الاستقلال في 2017. ويرى أن قرارات السياسة الأمريكية تجاه الكورد غالباً ما كانت تُتخذ بشكل عرضي وغير مدروس، من دون اعتبار كافٍ لمصالح الشعب الكوردي.

دروس في الصحافة والحياة

قصتي مع وكالة UPI «يونايتد پريس إنترناشيونال» والصحفي جوناثان راندل و«الواشنطن بوست» ليست مجرد قصة نجاح شخصية، بل هي شهادة على قوة الصحافة في بناء الجسور بين الثقافات والشعوب، هي قصة تثبت أن الأحلام التي قد تبدو مستحيلة يمكن أن تتحقق في يوم من الأيام، وأن المهنة النبيلة للصحافة قادرة على تغيير حياة الناس وإيصال أصوات المهمشين إلى العالم.

اليوم، عندما أتأمل تلك المسيرة، أدرك أن ما بدأ كلقاء عابر في أربيل خلال انتفاضة 1991، تحول إلى قصة ملهمة عن قوة الإصرار والمثابرة. إنها رسالة لكل الشباب الطامحين مفادها: «لا تستهينوا بأحلامكم، فقد يكون ما تعتبرونه مستحيلاً اليوم، واقعاً غداً».

تعلمت أن الصحافة ليست مجرد مهنة لنقل الأخبار، بل هي جسر يربط بين الشعوب والثقافات. عندما كنت أشاهد جوناثان راندل يدوّن ملاحظاته في دفتره الصغير، لم أكن أدرك أنني سأحمل يوماً نفس المسؤولية في نقل صوت شعبي إلى العالم. كل تقرير كتبته في «الواشنطن بوست» كان أقوى تأثيراً من قذائف المدافع..

ما بين جبال كوردستان وأعمدة «الواشنطن بوست»، تعلمت أن الحياة تخبئ لنا مفاجآت جميلة. قد يبدو الطريق طويلاً وشاقاً، لكن كل خطوة تقربنا من أحلامنا هي خطوة تستحق العناء. وفي النهاية، ليست القمة هي ما يهم الوصول إليه فقط، بل كيف نرسم طريقنا للوصول إليها.

فلنتذكر دائماً أن ما نراه مستحيلاً اليوم قد يكون قصة نجاح نرويها غداً. المهم أن نؤمن، أن نثابر، وأن نظل أوفياء لأحلامنا مهما كانت التحديات.​​​​​​​​​​​​​​​​

 

الهوامش : 

«الواشنطن بوست» (The Washington Post) 

صحيفة يومية أمريكية مرموقة تأسست عام 1877 في العاصمة واشنطن. تُعد من أهم الصحف الأمريكية وأكثرها تأثيراً، اشتهرت بتغطيتها المتميزة للسياسة المحلية والدولية. حازت على 47 جائزة «بوليتزر»، وتمتلك شبكة واسعة من المكاتب الإخبارية حول العالم، تشمل 24 مكتباً خارجياً و11 مكتباً محلياً في الولايات المتحدة. كان لها دور تاريخي في كشف فضيحة «ووترغيت» الشهيرة التي أدت إلى استقالة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون. وتُعرف الصحيفة بتحقيقاتها الاستقصائية العميقة وتغطيتها المهنية للأحداث العالمية، مما جعلها منصة إعلامية عالمية موثوقة.

جوناثان راندل (Jonathan C. Randal)

صحفي ومراسل حربي أمريكي مخضرم، عمل في صحيفة «الواشنطن بوست» لأكثر من 45 عاماً. اشتهر بتغطياته الاستقصائية في مناطق النزاع، خاصة في الشرق الأوسط. ويُعد من أبرز الصحفيين الذين وثقوا القضية الكوردية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. ألف كتاباً مهماً بعنوان (After Such Knowledge, What Forgiveness? My Encounters with Kurdistan) «أمة في شقاق... دروب كردستان كما سلكتها»، الذي يُعتبر مرجعاً أساسياً في فهم تاريخ ونضال الشعب الكوردي. غطى كمراسل حربي العديد من النزاعات في الجزائر ولبنان وإريتريا، وأجرى مقابلات مع شخصيات تاريخية مثيرة للجدل. عُرف بشجاعته في الوصول إلى مناطق النزاع وتقديم تقارير عميقة عن القضايا الإنسانية والسياسية.

«يونايتد پريس إنترناشيونال» (UPI)

وكالة أنباء عالمية تأسست عام 1907 في الولايات المتحدة. تُعد واحدة من أقدم وأعرق وكالات الأنباء في العالم. اشتهرت بتغطيتها الإخبارية الشاملة وخدماتها الإعلامية المتنوعة. تمتلك شبكة واسعة من المراسلين حول العالم وتقدم خدماتها بأكثر من 12 لغة. حصل مراسلوها على العديد من الجوائز المرموقة، بما فيها جوائز «بوليتزر». تشتهر الوكالة بتغطيتها المتميزة للأخبار السياسية والاقتصادية والعلمية، وتعتبر مصدراً موثوقاً للأخبار تعتمد عليه كبرى المؤسسات الإعلامية العالمية.

 


إحسان رشاد المفتي: كاتب وباحث كوردي 

 


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved