النوتة الموسيقية الحورية - الكوردية الأقدم في التاريخ
النوتة الموسيقية الحورية - الكوردية الأقدم في التاريخ

الحوريون، أو الخوريون، شعب قديم استوطن مناطق واسعة تمتد من شمال بلاد الشام إلى أجزاء من الأناضول وبلاد الرافدين، حيث برزت مملكتهم "ميتاني" كواحدة من الكيانات السياسية المهمة في الألفية الثانية قبل الميلاد. كانت عاصمتهم أوركيش، المعروفة اليوم بتل موزان، الواقعة بالقرب من القامشلي شمال شرق سوريا، من أبرز مراكزهم الحضارية.

ينتمي الحوريون إلى الشعوب الجبلية التي استوطنت مناطق كوردستان الحالية، ويعتبرهم العديد من علماء الآثار والتاريخ أسلاف الكورد، خاصة أنهم أسسوا ممالك في شمال ميزوبوتاميا، وهي المناطق نفسها التي تشكل قلب الوجود الكوردي اليوم، وتشمل جنوب شرق تركيا، شمال سوريا، وشمال العراق. وكان المؤرخ الروسي فلاديمير مينورسكي من أوائل الباحثين الذين أشاروا إلى العلاقة بين الحوريين والكورد، بينما أشار الباحث الكوردي محمد أمين زكي، في كتابه خلاصة تاريخ الكورد وكوردستان، إلى أن الكورد نشأوا من تمازج الشعوب الهندو-إيرانية مع الشعوب الأصلية في زاغروس، التي قد تكون من أصول حورية.

أقدم تدوين موسيقي في التاريخ

في عام 1957، تم اكتشاف 36 رقيماً طينياً في مدينة أوغاريت، تحتوي على رموز موسيقية تعد من أقدم التدوينات الموسيقية المعروفة، حيث تمكن العالم السوري راؤول فيتالي من فك رموز بعضها. وعُرفت هذه المجموعة باسم (ح في إشارة إلى اللغة الحورية التي كُتبت بها، وتعود إلى عام 1400 ق.م.

يشير وجود هذه التدوينة في أوغاريت إلى النشاط الثقافي والتجاري للحوريين في الساحل السوري، حيث كان لهم حي خاص في المدينة. وتحمل هذه التدوينة نصوصاً موسيقية تتضمن ابتهالات للآلهة "نينكال آلهة البساتين، حيث تدور الفكرة حول أنشودة حزينة تروي قصة زواج إله القمر "يرخ" من "نينكال" دون إنجاب، ما دفع الأخيرة إلى الاعتقاد بأنها تُعاقب على خطيئة ارتكبتها، فتضرعت إلى الآلهة.

ويرى علماء الموسيقى أن هذه التدوينة الحورية تمثل أقرب مثال للتدوين الموسيقي الحديث، حيث تتضمن إشارات إلى كيفية عزف الترنيمة على آلة القيثارة الحورية. وقد عمل فيتالي على ترجمة النص الموسيقي وإعادة ترتيب السلم الموسيقي، ليكشف عن نظام متكامل يحدد طريقة عزف الترنيمة صوتياً.

إعادة إحياء الموسيقى الحورية

السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن عزف الموسيقى الحورية اليوم؟

وفقاً للمتخصصين، فإن ذلك ممكن، حيث تُظهر التدوينة الموسيقية الحورية تشابهاً كبيراً مع مقام الكورد، وهو أحد المقامات الأساسية في الموسيقى الشرقية، سواء الكوردية أو العربية أو الفارسية والتركية. وقد أُجريت عدة محاولات حديثة لإعادة عزف هذه الموسيقى، كان أبرزها تجربة عالمة الموسيقى "آن كيلمر التي قدمت نسخة حديثة مفترضة لـ "ترنيمة نينكال".

كما ساهم الموسيقار السوري مالك جندلي في إحياء هذه الألحان، حيث قام بوضع الإيقاع والهارموني وإعادة التوزيع الموسيقي، ليحوّلها إلى عمل موسيقي فريد بعنوان أصداء أوغاريت، قدمه برفقة الأوركسترا الفلهارمونية الروسية عام 2008، مستخدماً السلم الموسيقي السباعي.

مقام الكورد وأصوله الحورية

هل لمقام الكورد جذور تعود إلى الحوريين؟

يرى معظم الباحثين في علم الموسيقى أن مقام الكورد هو أحد المقامات الأساسية في الموسيقى الشرقية، ويتميز بنغماته الشجية والعاطفية، مما يجعله شائعاً في الأغاني الكوردية الحزينة. كما يُعتقد أنه يحمل تأثيرات قديمة من المناطق الجبلية التي سكنها الحوريون، حيث اعتمدت موسيقاهم على أنغام قريبة من المقامات الشرقية.

ويذهب بعض الباحثين إلى أن تسمية المقام بـ"الكورد" تعود إلى تأليفه من قبل الكورد واستخدامه الشائع في موسيقاهم، إضافةً إلى أصوله الحورية، ما يجعله رابطاً موسيقياً بين الماضي والحاضر.

الآلات الموسيقية الحورية وتأثيرها على الموسيقى الكوردية

تشير الأبحاث إلى أن الحوريين استخدموا حروفاً مسمارية لتحديد أسماء الأوتار والمقامات الموسيقية التي تُعزف على آلاتهم، والتي اعتمدت على سلم موسيقي سباعي، وهو النظام نفسه المستخدم في الموسيقى الغربية الحديثة (دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي).

 

ومن بين أهم الآلات الموسيقية الحورية:

  • القيثارة الحورية (Lyre & Harp): تُعد من أبرز الآلات الموسيقية المكتشفة، وكانت تُستخدم في الطقوس الدينية والمناسبات الاحتفالية، حيث كانت تُصنع من الخشب.
  • الناي والمزمار (Flute & Reed Pipe): تُعتبر من أقدم آلات النفخ، وكانت تُصنع من القصب أو العظام، وتُستخدم في العزف الفردي والجماعي.
  • الطبول والدفوف (Drums & Percussion): كانت تُستخدم في الطقوس الدينية والمواكب الاحتفالية، ويُعتقد أنها استُخدمت أيضاً في المعابد.
  • القيثارة ذات الأعمدة (Lute-like Instrument): آلة تشبه العود الحديث، وتعتبر من الآلات الوترية الأساسية في الموسيقى الحورية.

 

التأثيرات الحورية في الموسيقى المشرقية

يرى بعض الباحثين أن الموسيقى الحورية تركت بصمتها الواضحة في الموسيقى الكوردية والتركية والفارسية وحتى العربية، خاصة في استخدام السلالم الموسيقية الشرقية التي تعتمد على الربع تون. كما أن بعض الآلات الموسيقية الكوردية التقليدية، مثل الدف والناي (الشبابة التي تُستخدم في الأعياد والمناسبات الدينية الكوردية، تعكس امتداداً لتقاليد موسيقية روحية قديمة تعود إلى الحوريين-الميتانيين.

 

المصادر والمراجع

  • دراسة تحليلية للموسيقى الحورية والحثية
  • مخطوطات من أوغاريت
  • The Hurrian Hymn to Nikkal
  • Ancient Near Eastern Music: A Bibliography
  • Music in the Ancient World (L. E. S. Lenoir)
  • دراسات من متحفي دمشق الوطني وحلب

 

خاتمة
تبرز الموسيقى الحورية كأحد أقدم أشكال التدوين الموسيقي في العالم، موثقةً عمق الحضارة الحورية وتأثيرها الممتد حتى اليوم. وبينما تواصل الدراسات الحديثة الكشف عن أسرارها، تبقى آثارها واضحة في الموسيقى الكوردية والمشرقية، مما يعزز الروابط الثقافية بين الماضي والحاضر.


د. مرشد اليوسف: دكتوراه في التاريخ وباحث في التاريخ والآثار 


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved