في عالم مليء بالألم والتحديات، يظل الفن هو المنفذ الذي يعبر عنه المبدعون الذين يواجهون المحن والظروف القاسية، حيث يتحول الألم إلى إبداع، والدمار إلى جمال. هذه هي قصة الفنانة الكوردية السورية آريا عطي التي استطاعت أن تحول المأساة إلى فن، وواجهت التحديات القاسية بعزيمة لا تلين لتصنع لنفسها مكاناً مرموقاً في عالم الفن. من قرية نائية في كوباني إلى معارض فنية في أوروبا، نجد في آريا مثالاً حياً على كيف يمكن للإبداع أن يكون مخرجاً من مآسي الحرب والنزوح.
الطفولة والنشأة: تحدي الظروف الصعبة
نشأت آريا في بيئة قاسية في قرية نائية من قرى كوباني التي كانت شاهدة على الحرب والدمار. في مجتمعٍ تقليديّ لم يكن يعترف بمكانة النساء في عالم الفن، كان يُنظر إلى النساء كمجرد كائنات تقتصر أدوارهن على المنزل والأمور التقليدية، حيث لم يكن هناك دعم كبير لمواهبهن أو طموحاتهن. ومع ذلك، ورغم هذا التحدي المجتمعي، كانت آريا منذ صغرها ترى في الفن مخرجاً من الواقع المظلم الذي عاشته، فبدأت في استكشاف فنون الرسم والتصوير على الرغم من عدم توفر الأدوات التعليمية اللازمة.
كانت رحلة آريا التعليمية مليئة بالصعوبات، فقد قررت الالتحاق بكلية الفنون في جامعة حلب، في وقت كان فيه الوضع الأمني في سوريا في أسوأ حالاته، حيث كانت الحرب تعصف بالبلاد. لم تكن هناك كوادر تعليمية متخصصة لمساعدتها في صقل موهبتها، وكانت الإمكانيات العلمية والتقنية محدودة للغاية. ورغم هذه الظروف الصعبة، واصلت آريا دراستها من دون أن تجد إجابات كافية للأسئلة الفنية التي كانت تدور في ذهنها، خاصة في ظل انعدام الإنترنت وندرة المصادر العلمية.
لكن في إحدى زياراتها لمكتبة الكلية، اكتشفت آريا كتاباً يحتوي على صور لوحات لفنانين عالميين مثل غوستاف كليمت وفان كوخ وفريدا كالو. كانت هذه اللحظة محورية في مسيرتها الفنية، إذ ألهمتها لوحات هؤلاء الفنانين العالميين الذين كانوا قد مروا بتجارب معاناة شبيهة بتجاربها، فتأثرت بشدة بأسلوبهم الفني وعبرت من خلاله عن مكنوناتها.
من غوستاف كليمت إلى فريدا كالو
كانت آريا تأمل في أن تجد في فنانين مثل غوستاف كليمت وفان كوخ وفريدا كالو أدوات تساعدها على التعبير عن نفسها. تأثرت بشكل خاص بأسلوب فان كوخ في استخدام الألوان وأدواته الفنية التي كانت تعكس أحاسيسه الداخلية. أما كليمت فقد ألهمتها تركيباته وتكويناته التي كانت تمثل أفكاراً فلسفية معقدة، بينما فريدا كالو كان لها تأثير كبير على طريقة تقديم الموضوعات الشخصية، وخاصة في رسم البورتريهات التي تعكس الآلام والتجارب الشخصية. «كنت أرى في لوحاتهم شيئاً يعبر عن حالتي، وكنت أحاول تقليد هذه اللوحات في خيالي»، تقول آريا.
البحث عن بداية جديدة
مع تصاعد الأزمة في سوريا، قررت آريا أن تبحث عن فرصة جديدة بعيداً عن الحرب. اختارت اللجوء إلى ألمانيا، حيث يمكنها أن تجد أفقاً جديداً لفنها وحياتها. لكن الطريق إلى اللجوء لم يكن سهلاً، فقد كانت رحلة محفوفة بالمخاطر والمصاعب، وصولاً إلى «مخيمات اللجوء» حيث بدأت حياة جديدة، لكنها كانت محملة بألم الماضي وهموم الحاضر.
وعلى الرغم من التحديات اللغوية والثقافية، تمكنت آريا من الاندماج في المجتمع الألماني، حيث وجدت بيئة داعمة لأعمالها الفنية، وهو ما ساعدها على التواصل مع الآخرين عبر الفن واللوحات التي تحمل فيها رسائل إنسانية. من خلال معارضها وورش العمل التي نظمتها، استطاعت آريا أن تنقل معاناتها وتجاربها الحياتية إلى لوحات تعكس الأمل في الحياة رغم الألم.
منذ وصولها إلى ألمانيا، لم تقتصر آريا على العمل على تطور فنها الشخصي فقط، بل عملت على تمكين الآخرين، خاصة الفنانين اللاجئين الذين يواجهون صعوبات في التعبير عن أنفسهم في مجتمع جديد. من خلال تنظيم ورشات فنية ومبادرات تهدف إلى مساعدة اللاجئين على الاندماج الاجتماعي والفني، قدمت آريا مشاريع تهدف إلى دعم الهويات الفنية المهاجرة والتعبير عنها بأساليب فنية تتجاوز الثقافات.
لم يكن الأمر سهلاً في البداية، فقد واجهت البيروقراطية الألمانية والصعوبات الإدارية في محاولة للحصول على الموافقات اللازمة لتنفيذ مشاريعها. لكنها استطاعت أن تخترق هذه الحواجز، مما أتاح لها تنظيم عدد من الفعاليات التي أبرزت الفن الكوردي وفن اللاجئين في ألمانيا.
الفن الكوردي والهوية
كان للأقمشة الكوردية دور مهم في أعمال آريا الفنية، فقد استخدمتها لتعبير عن هويتها الثقافية في مخيمات اللاجئين، ليكون الفن وسيلة للتمسك بالتراث. لم تقتصر لوحاتها على مجرد التعبير عن الألم، بل كانت تهدف إلى نقل رسائل ثقافية عميقة تدور حول الهوية الكوردية وقضايا النساء. عبر الفن، أعطت آريا الحياة للتراث الكوردي وأظهرت أنه فن ذو رسائل إنسانية عميقة بعيداً عن أجواء الحرب والتدمير.
لقد كانت آريا جزءاً من أكثر من 40 معرضاً فنياً في دول مختلفة، بما في ذلك ألمانيا والشرق الأوسط. وأبرز مشاركاتها كانت في الفاعلية العالمية الشهيرة (Documenta fifteen) في مدينة كاسل الألمانية، التي تشارك فيها نخبة من الفنانين العالميين. كما عرضت أعمالها في المتحف القومي للحضارة المصرية، مما زاد من حضورها في الساحة الفنية الدولية.
آريا عطي ليست مجرد فنانة، بل هي رسالة حية بأن الفن يمكن أن يكون أداة للتحول والشفاء، يمكنه أن يحمل الألم والفرح معاً في لوحات تنطق بأعمق المشاعر. عبر تجربتها المليئة بالتحديات، أثبتت آريا أن الإبداع يمكن أن يتجاوز الحدود الثقافية والجغرافية، وأن الفنان الحقيقي هو من يخلق من الظلام نوراً، ومن الحزن إبداعاً.
جان دوست: شاعر وروائي ومترجم كوردي، صدر له العديد من الكتب والروايات، وترجم العديد من الروائع الكوردية إلى العربية