«فوناس» رحلة سلام من ليبيا إلى كوردستان
«فوناس» رحلة سلام من ليبيا إلى كوردستان

«رسالتي رسالة سلام»، بهذه الكلمات يلخص الرحالة الليبي نوري فوناس فلسفته التي حملها عبر 166 دولة، قطع خلالها آلاف الكيلومترات سيراً على الأقدام، متسلقاً الجبال، عابراً القارات، ليجد في كوردستان ضالَّته: جمالاً طبيعياً لم يره من قبل، وكَرماً بشرياً استثنائياً.

في شتاء 1997، انطلق فوناس - الليبي المولد، والأمازيغي اللقب - من مسقط رأسه في بنغازي متوجهاً إلى مصر، لتصبح أولى محطات رحلته حول العالم. «المفاجأة كانت في الزحام البشري الهائل»، يقول فوناس مُتذكراً دهشته الأولى لدى دخوله مصر، بعد أن عاش في ليبيا التي تحتل المرتبة الـ 16 عالمياً من حيث المساحة، بينما يسكنها نحو 5 ملايين نسمة فقط. 

25  عاماً من التحدي... بين القمم والوديان  

خلال ربع قرن، تجول فوناس في دول تفوق عددها نصف أعضاء الأمم المتحدة، وتحدى أعلى القمم، من الهيمالايا في باكستان والهند ونيبال، إلى جبل فوجي في اليابان. لكن مفاجأته الكبرى كانت في كوردستان: «منظر جبال زاخو عند الغروب، مع القمم الثلجية، جذبني بقوة»، يصف فوناس لحظة وصوله في 21 شباط 2025، مُعتبراً تلك الجبال «أجمل مناظر بانورامية شهدتها في حياتي».  

كوردستان... الكرم الذي أعاد تعريف الضيافة  

في أولى لياليه بمدينة زاخو شمال محافظة دهوك، رفض شباب كورد أن يبيت الرحالة في العراء، أو حتى أن ينصب خيمته، «استضافوني في منازلهم رغم أنهم لا يعرفونني»، يقول فوناس، الذي التقى خلال إقامته أستاذاً للغة الكوردية تعلم منه مفردات بسيطة، كبادرة انفتاح على ثقافة المنطقة.

ويضيف: «منذ دخولي كوردستان حتى مغادرتها، لم أستخدم خيمتي ولو لمرة واحدة. الناس هنا يمنعونك من إنفاق فلسٍ واحد». ويتمنى فوناس أن تنتشر ثقافة الضيافة الكوردية في العالم، مُشيراً إلى أن قوانين التخييم الصارمة في أوروبا - حيث تُفرض غرامات على من ينصب خيمته خارج المناطق المخصصة - تتناقض مع «التلقائية والكرم الذي يعيشه المرء في كوردستان».

«أربيل من أجمل مدن الشرق الأوسط»، بهذه العبارة يلخص فوناس إعجابه بالمدينة التي رأى فيها «دمجاً فريداً بين الحضارة القديمة والنهضة العمرانية الحديثة». ويتذكر الرحالة كيف نشأ على سماع سيرة القائد البارزاني، «الذي ارتبط اسمه في ذاكرتي بالرفعة والسمو»، مُضيفاً: «كوردستان تاريخها مشرف، وحاضرها ومستقبلها زاهران». 

من جبال الألب إلى زاخو  

يشرح فوناس مساره الطويل إلى كوردستان، الذي بدأ من جبال الألب السويسرية، مروراً بدول البلقان مثل النمسا وألمانيا وسلوفينيا وكرواتيا والبوسنة وصربيا، ثم رومانيا وبلغاريا والجبل الأسود ومقدونيا وألبانيا واليونان وقبرص، قبل أن يعبر تركيا إلى إقليم كوردستان.

«المشي صحة»، جملة يرددها فوناس كشعارٍ التزمه منذ بداية رحلته. يسير يومياً 17 كيلومتراً في المناطق الجبلية، وصولاً إلى 40 كيلومتراً في السهول، مُستخدماً القوارب أو الطائرات فقط عند مواجهة البحار أو الجزر. أما خيمته، التي يحملها على ظهره، فلم تُفارقه إلا في كوردستان، حيث حلَّت البيوت الدافئة محلَّها.

بينما يعبر نوري فوناس منتصف العقد الرابع من عمره، يُحدّثنا عن مفارقةٍ تملأ حياته: «وُلدتُ في نوروز 1979، اليوم الذي يرمز إلى التجدد في الثقافة الكوردية، وكأن الكون يهمس لي بأن أكون جزءاً من سلسلة بداياتٍ لا تنتهي». ورغم إصراره على مواصلة رحلته حتى الآن، إلا أنه يرى في الأفق نهايةً مؤقتة: «سأكمل زيارة باقي البلدان، بعدها سأعود إلى بنغازي حيث بدأت رحلتي، لأزرع جذوراً جديدة».

وعن قراره بتأخير الزواج، يعلق ضاحكاً: «الزواج يعني أن تحمل معك قلباً آخر في كل خطوة، وأنا لم أكن مستعداً لذلك. لكني حين أعود، سأبحث عن امرأة تفهم أن الترحال ليس مجرد سفر، بل فلسفة حياة». 

ويختم حديثه بجملةٍ تختصر رحلته: «الترحال ليس هروباً من الواقع، بل بحثٌ عن جوهر الإنسان. وفي كوردستان، وجدت ذلك الجوهر بأجمل صوره». 

هكذا، يحمل نوري فوناس في حقيبته الخفيفة أكثر من مجرد خيمةٍ وحذاء مشي؛ إنه يحمل قصصاً تثبت أن الإنسان قادرٌ على صنع السلام خطوةً خطوة، حتى لو استغرق ذلك عمراً بأكمله.

بعد 25 عاماً من الترحال، يُصر فوناس على أن رسالته لم تتغير: «السلام هو القيمة الأسمى». ويختم حديثه لمجلة «كوردستان بالعربي»: «أشعر أن هوية الكورد جزء لا يتجزأ من هوية المنطقة، وأن كوردستان تُعلم العالم معنى الإنسانية الحقيقية».


رياض الحمداني: صحفي ومؤلف عمل في العديد من المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية



X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved