بين طوقٍ من البساتين الخضراء الساحرة، يطلُّ تلُّ مكلل بالبيوت والنخيل، وحول سفوحه تنتشر المراعي ويعلو صوت الباعة. عيون المارة لا تغفل عنه فصورته تملأ المحيط، وترابه المعجون بالطين نقطة للقاء الضائع القادم مِن بعيد، إنه تل جصان في منتصف مدينة جصان، التابعة لمحافظ واسط قرب الحدود العراقية - الإيرانية.
ويبلغ ارتفاع تل جصان، حسبما نشر في مجلة «ألف باء» في ثمانينات القرن الماضي، حوالي 50 متراً ومساحتهُ 10 دونمات، سكنه سابقاً أكثر من 70 عشيرة مِن الطبقة الفقيرة. أما الموجودون حالياً فحوالي 20 عائلة فقط. وسكان التلّ من مختلف القوميات من العرب والكورد، يتمتعون بجو التعايشِ السلمي والتقارب بالمصاهرة والتواصل في جميع المناسبات والطقوس.
تُسمى أزقة التلّ (عجود أو عگود) وتعني دهاليز ضيقة عرضها من 3 إلى 4 أمتار، والعديد من هذه الدهاليز تنتهي ببيت، أي شكلها كالمتاهة، لذلك مِن الصعب لأحد غير أهالي التلّ أن يسير من دون أن يتوه فيها.
الحياة اليومية
وكان لسكان التلّ ممثل كالقائد، يحظى بمحبة الناس واحترامهِم، يساعدهم في حلّ مشاكلهم وإرشادهم. وفي التعداد الأول عام 1934 بلغ عدد سكانه 915 عائلة، العائلة الواحدة هي مجموعة من الأُسر، حيث أنّ من يتزوج من الأبناء يُشيِّدُ له غرفة داخل بيت العائلة، وهذه الغرفة تعتبر بيتاً للأسرة الجديدة، وتبلغ مساحة البيت الواحد للمُتنفذين وأصحاب المزارع والمواشي 150 متراً، أما بيوت الناس الاعتياديين من 60 إلى 75 متراً.
المياه والغسيل
المصدر الوحيد للموارد المائية الذي يعتمد عليه الأهالي في تل جصان، هو «گلال بدرة» المنحدرة من جبال زاگروس الفاصلة بين الحدود العراقية - الإيرانية، وقد اشتهروا بزراعة الشعير حتى أصبح «بلد الشعير» اسماً من أسماء الناحية، نسبة إلى حرفة أبناء التلّ الشهيرة وهي زراعة الشعير. وكانوا يتزودون بالماء الصالح للشرب من مدينة الكوت يجلب إليهِم بشاحنات الصهاريج. أما ماء الغسيل فقد كانت النساء يذهبن إلى نهري «الفوك» و«الحدر»، وظلَّت الحال هكذا إلى ثمانينات القرن الماضي حيث تم إيصال أنابيب الماء إليهم.
الأسواق والمقاهي
أما سوق التلّ فيمتد على جانبيه شريطان من الدكاكين، وهو ذو ترتيب هندسي دقيق، يبتدئ بمقهى وينتهي بمقهى. وكانت الحرف المتداولة فيه النجارة والحدادة والخياطة. لكن حسب ما صرح به أهالي جصان، فإنهم يفتقرون حالياً إلى مثل سوق التلّ الأثرية في المدينة، لترتيبه المعماري والهندسي المتقن.
ويحتوي تل جصان على 7 مقاهي، ومن المفارقات أنها تقام فيها طقوس العيد والزواج، وكل مقهى لفئة معينة من الناسِ، كمقهى للمعلمين وآخر للفلاحين وثالث للسياسيين كان بمثابة منفى للمعارضين للحكومات ما بعد الملكية.
وأفاد أحد أبناء القُرى المحيطة بالتلّ بأنه كان يسمى بمدينة الطب الصغيرة، لوجود مَن يمتهن الطب بطريقتهم الخاصة، ويتوافد المرضى من مدن بعيدة للعلاج من بعض الأمراض وأهمها مرض (الشرجي والشاكص).
المعالم الدينية والعلمية
وما يميز تل جصان أيضاً مسجده الفريد وحسينيَّتان، ويضم المسجد في الحي بئراً ماؤها للوضوء فقط، لأنَّه غير صالح للشرب، فماؤه فيها تركيزات من الكبريت من الممكن استخدامها أيضاً لمعالجة الأمراض الجلدية من قبل الأهالي. وتعتبر البئر ظاهرة عجيبة لأنه في تلّ من الطين وليس صخراً ولم تعرف كيفية تدفقه إلى الآن.
التعليم
تأسست في تل جصان أول مدرسة طينية سنة 1927 وكان عدد طلابها 100 طالب، واعتبِرت كمدرسة لمحو الأُمية فأغلب طلاب الصف الأول آنذاك كانوا من تولدِ (1910 و1918)، ومن أكمل مرحلة الابتدائية فيها، كان ينتقل إلى بدرة أو الكوت لدراسة المتوسطة وباقي المراحل الدراسية.
تل جصان والتاريخ
أفاد متحدث آخر من أهالي التلّ القدامى، بأنه كانت للتل قلعة يحيطها سور، وتضم 3 أبواب، كل باب له اسم (الباب الكبير والباب الصغير والباب العبادي). ويبدو أن تسمية الأبواب بهذه الأسماء دلالة على أسماء شخصيات مؤثرة لديهم (وما زالت آثار هذه الأبواب موجودة).
وأضاف المتحدث أن منطقة التل كانت تُستخدم لصد الهجمات الفارسية في زمن أحد حكام «أور» وهو أوتوشالينو الذي كان يسمى حاكم الجهات الأربعة. وإبان الدولة العثمانية اُتُّخذ مقراً للقوات العثمانية للسيطرة على الأراضي الزراعية والتواصل مع الإقطاعيين وقيادِة المناطقِ المحيطة.
ومؤخراً عرضت فيه الكثير من الأعمال الفنية أبرزها فيلم (باخمرا وأسير جصان وعكد الحبايب)، ويتوافد إليه العديد من الرواد من المثقفين والإعلاميين والسياح والقنوات الفضائية، وبعض الرحالة القادمين من أوروبا.
ولكن خلال السنوات القليلة الماضية، بدأت تندثر معالمه من بيوت وأسواق وبنى تحتية أثرية بسبب ظروف المناخ والتغييرات البيئية، هناك مطالبات من أبناء الناحية ومثقفين وفنانين لجعله مَعلماً سياحياً من خلال إعادة ترميمِ معالمه حسب المواصفات العالمية لما له من أثرٍ وتاريخٍ وأصالة.
حسين جنكير: شاعر وكاتب مسرحي مذيع ومعد برامج إذاعية