تُرسل الشمس أشعتها الدافئة على القلعة القديمة في أربيل وتغمر قلب المدينة هناك، حيث تضج الشوارع المزدحمة بصوت أبواق السيارات. أسفل أسوار القلعة يقع البازار، السوق المسقوفة أو القيصرية، أقدم وأشهر أسواق أربيل. يجد المتسوقون والسياح أنفسهم في دفء الثقافة الكوردية المحلية، غارقين في ألوان وروائح وأصوات القيصرية النابضة بالحياة.
بالنسبة لأهل أربيل، يُعتبر السوق أكثر من مجرد مكان للتجارة، بل هو متحف حي للثقافة الكوردية، حيث تروي كل زاوية فيه قصة مختلفة. يعود تاريخ هذا السوق العريق إلى القرن الثامن عشر، ويقع عند سفح القلعة القديمة، ليقدم للزوار مزيجاً فريداً من التقاليد والتجارة والتراث الثقافي.
يُعد سوق القيصرية أحد أبرز معالم المدينة، ومكاناً مركزياً يجذب السائحين ويجتمع فيه السكان المحليون حيث تتم التجارة ويتواصل الناس ويلتقي الأصدقاء وتتبادل الشعوب ثقافاتها المختلفة على مر الأجيال.
وبينما يتجول الزوار في السوق المزدحم، تعمّ الأجواء روائح التوابل. وتُبهر العين أكوام الزعفران والكمون والكركم الزاهية الألوان. في مكان قريب، يقوم أحد البائعين بمهارة بطحن أوراق الحناء إلى مسحوق ناعم جاهز للاستخدام في فنون الزينة التقليدية. تمتزج رائحة الحناء مع التوابل العطرية، لتخلق لوحة حسية فريدة من نوعها تحمل بصمة سوق القيصرية الخاصة. تلك التوابل، التي تُستخدم في الطهي اليومي الكوردي، ليست مجرد مكونات بسيطة بل هي تجسيد للثقافة المحلية، حيث تقدم لمحة عن وصفات توارثتها الأجيال منذ القديم وعلى مدى قرون عديدة.
ومع اقتراب غروب الشمس، يتردد في السوق نداء الأذان العذب، مضيفاً إيقاعاً روحانياً خاصاً إلى نبض السوق. يقف بعض البائعين بعرباتهم الصغيرة في الأزقة الضيقة، يقدمون معجنات كوردية خاصة مثل البسكويت أو حلقات السمسم. تمتزج رائحة المخبوزات الطازجة مع الروائح الأخرى في السوق، مما يجعل من الصعب مقاومة الرغبة في تذوق وجبة أو اثنتين. هذه الوجبات الخفيفة التقليدية، التي غالباً ما تُقدم مع كوب من الشاي، هي جزء أساسي من الضيافة الكوردية، وهي تقدم للزوار لمحة عن الروح الدافئة والكريمة للسكان المحليين.
غالباً ما يعرض الباعة الودودون أكواب صغيرة من القهوة للتذوق، مجسدين تقاليد الضيافة الكوردية. القهوة الغامقة الغنية تُعد متعة بحد ذاتها، وتُقدم في أكواب صغيرة مما يفسح مجالاً لتبادل الأحاديث والتواصل بين الباعة والزبائن. قد يرى المتسوقون وهم يستمتعون بقهوة الشوكولاتة بينما يحملون أكياساً مليئة بلفائف الرمان أو المكسرات والحلوى وهم يشقون طريقهم عبر حشود الناس. هذه الحشود مزيج من السكان المحليين والسياح، يساهم كل شخص في خلق أجواء فريدة للسوق. ومن خلال التفاعل مع الباعة، يكتسب الزوار فكرة عميقة عن أسلوب الحياة الكوردية، التي تتميز بالدفء والكرم والارتباط العميق بالأرض والتقاليد.
في سوق القيصرية، يمتلئ الهواء بمزيج غني من صدى اللغات المختلفة. وبينما يتجول الزوار في الأزقة الضيقة، يسمعون الكوردية من زاوية والعربية من زاوية أخرى. ولا يقتصر الأمر على الباعة الذين يتحدثون بهذه اللغات، بل يشمل الزوار أيضاً، مما يخلق مزيجاً متناغماً وجميلاً من الأصوات. يميز الزائر صوت اللغة الكوردية بإيقاعها اللحنّي الدافئ الذي يهدئ القلب، مما يجعل تجربة التجول في السوق أكثر إثارة. إنه تذكير بالتأثيرات الثقافية المتنوعة في المنطقة وتعايش المجتمعات المختلفة في هذا المكان التاريخي البديع. وسواء سمعت الأحاديث الحيوية بالكوردية أو النغمات المألوفة باللغة العربية، فإن كلتا اللغتين تمتزج معاً في سيمفونية تعكس الوحدة والتاريخ المشترك لشعوب المنطقة.
إن زيارة سوق القيصرية رحلة عبر الزمن والتقاليد. كل كشك بيع، وكل منتوج، وكل تفاعل يروي قصة التراث الكوردي وروح شعب أربيل الخالدة. سواء كان المرء زائراً لأول مرة أو متسوقاً معتاداً، فإن سوق القيصرية يقدم للجميع لمحة فريدة عن الفسيفساء الثقافية الغنية لكوردستان.
مي دوست: ماجستير في اتصالات الوسائط الرقمية من جامعة RWTH Aachen. مديرة وسائل التواصل الاجتماعي في إحدى الشركات الألمانية