في حي سكني هادئ بمدينة أربيل، تقف خزانات المياه الفارغة شاهدة على أزمة تتعمق يوماً بعد يوم. العم صابر، ستيني يقف أمام منزله متكئاً على عصاه، يرقب الأفق بعينين متعبتين بحثاً عن صهريج المياه الذي طال انتظاره.
«سبعة عشر يوماً مرت ولم تصلنا قطرة ماء واحدة من الشبكة الرئيسية»، يقول بصوت يختلط فيه الألم بالأمل، بينما تظهر زوجته على عتبة الباب مستفسرة: «هل وصل الصهريج بعد؟»
أصبح هذا المشهد اليومي جزءاً من حياة آلاف العائلات في أحياء متفرقة من مدينة أربيل، التي تعاني من أزمة مياه تزداد حدتها مع ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف في بعض الأحياء السكنية من المدينة.
تجارة رائجة وسط الأزمة
يجلس كاك صابر في فناء منزله، يروي تفاصيل معاناته لمجلة «كوردستان بالعربي» قائلاً: «نضطر لشراء الماء عن طريق الصهاريج، ومع ذلك فإن ما نشتريه لا يكفينا في فصل الصيف، خاصةً مع تشغيل مبردات الهواء التي تستهلك كميات كبيرة من المياه».
بعيون تلمع فيها ذكريات الماضي، يضيف كاك صابر: «في العام الماضي فكرنا جدياً بالعودة إلى القرية بسبب شح المياه. لكن هذه السنة تفاءلنا بعد سماعنا بمشروع مياه أربيل الطارئ. أعتبر هذا المشروع إنقاذاً لنا».
في مشهد يعكس أزمة تتجاوز مجرد انقطاع مؤقت للخدمات، تتحرك صهاريج المياه كشريان حيوي يغذي الأحياء العطشى في شوارع المدينة، لرسم صورة تحدٍ بيئي ومناخي متصاعد.
«كوردستان بالعربي» رافقت سائق صهريج مخصص لنقل المياه يدعى مالك فرهاد، إلى نقطة التعبئة. يقول فرهاد: «الأزمة موجودة منذ فترة بسبب إعادة صيانة أنابيب مشروع مياه الإفراز، وقد وصل سعر صهريج المياه إلى أكثر من ثمانين ألف دينار وقت ذروة الأزمة».
بنبرة تختلط فيها المصلحة العملية بالاعتراف بحاجة المجتمع، يضيف: «هذا المشروع الجديد (مشروع مياه أربيل الطارئ) سيخدم مدينة أربيل بشكل كبير، لكننا كسائقي صهاريج المياه سنتضرر ويكون عملنا بالصهاريج قليلاً ومحدوداً جداً إذا انتهت الحكومة من إنجازه وضخ المياه للمنازل من خلاله».
جذور الأزمة: أبعد من انقطاع المياه
في مكتبه المزدحم بالخرائط والمخططات الهندسية، زارت مجلة «كوردستان بالعربي» السيد آري أحمد قادر، مدير عام المياه والمجاري في إقليم كوردستان، ليشرح الأبعاد العميقة للأزمة.
«آثار التغيرات المناخية أصبحت واضحة على منطقة الشرق الأوسط عموماً والعراق وإقليم كوردستان خصوصاً»، ويكمل المهندس الخبير. «تتمثل هذه الآثار في تكرار موجات الجفاف وظاهرة التصحر وانخفاض منسوب المياه الجوفية ومياه البحار، بالإضافة إلى تأثيراتها التراكمية على الغطاء الثلجي في المناطق الجبلية».
يتابع قادر وهو يشير إلى رسم بياني يظهر تراجعاً مستمراً في معدلات هطول الأمطار: «منذ ثمانينيات القرن الماضي، لوحظ انخفاض تدريجي في معدلات هطول الأمطار عاماً بعد عام، مما أثر سلباً على الغطاء الثلجي والمياه الجوفية والبيئة بشكل عام، وأدى إلى تقلص المساحات الخضراء».
يضيف محذراً: «هذه العوامل مجتمعة جعلت العاصمة أربيل تقع ضمن المناطق شبه المتصحرة، حيث باتت ظاهرة التصحر تشكل تهديداً حقيقياً للمنطقة».
التوسع العمراني يفاقم الأزمة
لا تقتصر المشكلة على العوامل المناخية وحدها، فكما يوضح مدير عام المياه والمجاري: «التوسع العمراني للمدن عموماً والزيادة السكانية المطردة ساهمتا في ارتفاع معدلات استهلاك المياه، ما فاقم من حدة المشكلة».
في جولة ميدانية بأطراف المدينة، تظهر أبراج سكنية شاهقة وأحياء جديدة تنمو بوتيرة متسارعة، ما يعني تنامي الطلب على المياه.
«نتيجة لانخفاض معدلات الأمطار والمخزون المائي بشكل عام مع زيادة الاستهلاك، برزت مشكلة شح المياه سواء للاستخدام البشري أو للأغراض الزراعية»، يضيف قادر.
الاحتباس الحراري: تهديد متزايد
وفيما يتعلق بالاحتباس الحراري، يؤكد مدير عام المياه والمجاري أن هذه الظاهرة ليست مقتصرة على العراق أو إقليم كوردستان، بل هي مشكلة عالمية.
«ارتفاع درجات الحرارة أثر على القطبين وعلى أنماط هطول الأمطار والغطاء النباتي»، يقول محذراً. «هذه التأثيرات ستزداد حدة على مصادر المياه الجوفية والسطحية خلال العشرين سنة المقبلة ما لم تتخذ إجراءات استباقية لمواجهتها».
ويبدو ان كل هذه الأسباب قد دفعت حكومة الإقليم إلى التفكير ملياً قبل وقوع الكارثة، وهذا هو نهج الحكومات في الدول المتقدمة، التي تضع الحلول قبل وقوع الكارثة، ترى ما هي الحلول؟
بلمحة من التفاؤل، يكشف قادر عن تفاصيل مشروع يعتبره السكان طوق النجاة: «مشروع الطوارئ لإيصال المياه إلى أربيل، الذي أقره رئيس حكومة إقليم كوردستان بشكل مباشر العام الماضي، يهدف إلى توفير المياه للمدينة بسرعة وخلال وقت قياسي».
ويشرح بحماس: «مجموعة شركات هيمن كروب (شركة محلية)، المعروفة بسرعة تنفيذ المشاريع وجودتها العالية، تولت تنفيذ المشروع بدعم من مديريات المياه والمجاري ووزارة البلديات».
وبفخر واضح، يؤكد: «تم أخذ جميع عوامل الأمان بعين الاعتبار، حيث يتم نقل المياه عبر خطين رئيسيين من المحطة الرئيسية إلى محطة التصفية في المدينة، مع وجود احتياطي بنسبة 40% لضمان استمرارية المشروع في حال تعطل أي جزء منه».
الدعم الدولي والحلول المستقبلية
يشيد مدير عام المياه والمجاري بدور الأمم المتحدة والدول الكبرى في دعم مشاريع المياه في الإقليم، موضحاً: «الإقليم استفاد من القروض اليابانية، كما قدمت الدول الأوروبية مشاريع لمكافحة التصحر ومبادرات أخرى متعلقة بالمياه».
وعن حجم التحدي، يوضح قادر: «خلال العشرين سنة الماضية، تضاعفت مساحة مدينة أربيل أربع مرات، وشهدت إنشاء مئات المباني العمودية المكونة من عشرات الطوابق، ما أدى إلى زيادة الطلب على المياه بشكل كبير».
ويستذكر: «آخر مشروع استراتيجي للمياه في المدينة كان مشروع إفراز 3 الذي بدأ تنفيذه في عام 2006 بطاقة 60%، واكتمل بنسبة 100% في عام 2016، ولم يكن متوقعاً هذا التوسع الكبير في المدينة من حيث المساحة والعمران والسكان».
ويختم بنظرة تفاؤل: «المشروع الجديد، المقرر تنفيذه خلال عام واحد، سيؤدي إلى إغلاق حوالي ألف بئر وإنهاء خدمتها، كما سيدعم مشاريع إفراز 1 و2 و3، وسيساهم في حل مشكلات المياه في بعض المناطق والأحياء الواقعة خارج شارع 120 متراً، مما سيسهل وصول المياه إلى جميع أحياء المدينة».
ووضع رئيس حكومة إقليم كوردستان، مسرور بارزاني، حجر الأساس لمشروع إمدادات المياه الطارئة لمحافظة أربيل في 8 أيلول/سبتمبر 2024. ويبلغ استثمار المشروع 480 مليون دولار بمدة إنجاز 550 يوماً، وسيعالج مشكلة نقص المياه في أربيل بنسبة 100٪.
سيوفر المشروع 480 ألف متر مكعب من المياه يومياً (حوالي 20-21 ألف متر مكعب/ساعة) لأحياء أربيل المختلفة، عبر أربعة خطوط رئيسية تغطي مناطق واسعة بما فيها دراتو وبنصلاوة وكسنزان وعينكاوة.
ويمر المشروع بتضاريس صعبة منها جبلية وأخرى وديان عميقة بالإضافة إلى أنه يقطع طرقات رئيسية عامة وأخرى فرعية بطريقة الأنفاق التي لا تؤثر على تلك الطرقات لتصل وتتفرع الى جهات العاصمة أربيل الأربعة بالإضافة إلى قلب أربيل.
ويعتمد المشروع على مياه نهر «الزاب الكبير» مع معالجتها وفق المعايير الصحية العالمية، مستخدماً 480 كيلومتراً من الأنابيب بمقاسات مختلفة، ويتيح إغلاق أكثر من 1000 بئر للحفاظ على المياه الجوفية.
في الحي السكني، يستمر العم صابر في انتظار صهريج المياه، لكن هذه المرة بقلب يملؤه الأمل بمستقبل تتدفق فيه المياه عبر الأنابيب دون انقطاع، وتنتهي فيه معاناة الانتظار تحت أشعة الشمس الحارقة.
رياض الحمداني: صحفي ومؤلف عمل في العديد من المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية